عام بعد التعويم

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الإثنين 20 نوفمبر 2017 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

انشغلت الأوساط الاقتصادية والإعلامية هذا الأسبوع بما جرى تسميته «عام بعد التعويم»، فى إشارة إلى انقضاء سنة على تحرير سعر الجنيه المصرى وبدء تطبيق البرنامج الاقتصادى الذى تضمن فرض ضريبة القيمة المضافة، وتخفيض دعم الوقود والكهرباء، والاقتراض من صندوق النقد الدولى. 

وبهذه المناسبة فقد رصد العديد من التقارير الدولية تحسنا فى المؤشرات الكلية للاقتصاد المصرى بما فيها تحقيق معدل نمو لا بأس به، وارتفاع فى الاحتياطى النقدى، وزيادة الاستثمار الأجنبى فى الأوراق المالية، وتحسن فى ميزان المدفوعات، وهبوط طفيف فى معدل التضخم وفى نسبة البطالة. وهذه مؤشرات إيجابية لا ينبغى الاستهانة بها. ولكن من جهة أخرى فإن العام المنصرم جلب لغالبية الشعب المصرى عناء شديدا وفرض على الجميع اختيارات صعبة وتضحيات جسيمة فى ظل الانفلات غير المسبوق فى الأسعار، واستمرار معدل البطالة مرتفعا، وتدهور مستوى الخدمات والمرافق العامة. 

كيف يمكن إذن تفسير هذا التناقض؟
الواقع انه لا يوجد تناقض على الإطلاق بين تحسن المؤشرات الكلية وتدهور مستويات المعيشة، بل هما ظاهرتان مرتبطتان أو وجهان لعملة واحدة، لأن الإجراءات الاقتصادية الرامية إلى خفض عجز الموازنة وتصحيح سعر الصرف تؤدى بالضرورة ــ وعلى المدى القصير ــ إلى زيادة الأسعار وتراجع قدرة الدولة على الإنفاق على الخدمات والمرافق العامة التى يعتمد عليها غالبية المواطنين. وهذا مسار سلكته كل الدول التى قامت بتطبيق برامج اصلاح هيكلى سواء بمساندة صندوق النقد الدولى أم بغيرها، حيث يلزم تحمل التكلفة العالية والمباشرة للإصلاح كى يمكن جنى ثماره فيما بعد مع تدفق الاستثمار وانخفاض البطالة وارتفاع حصيلة الدولة الضريبية من جراء زيادة النشاط الاقتصادى فتتمكن من زيادة إنفاقها العام مرة أخرى من موارد متجددة. 

واستنادا لهذا المنطق فقد كرر المسئولون عندنا أكثر من مرة إدراكهم بأن إجراءات العام الماضى كانت قاسية ولكن ضرورية، واقتناعهم بأن التأخير فى تنفيذها كان سيجعل تكلفتها ترتفع ومشقتها تزيد، وتأكيدهم أنها سوف تؤدى حتما إلى زيادات مطردة فى معدل النمو بما يعود بالخير والرخاء على جموع الشعب المصرى. 

ما المشكلة إذن؟ ولماذا لا ننتظر بهدوء وصبر حتى تأتى هذه الإصلاحات بنتائجها الإيجابية المتوقعة؟ 
المشكلة فيما تقدم أن المقدمة صحيحة ــ وهى أن الاجراءات الاقتصادية كانت لازمة وملحة ــ إلا أن نتائجها الإيجابية ليست حتمية ولا ضرورية، بل إن عدم استكمالها بالبرامج الاقتصادية والاجتماعية اللازمة سوف يؤدى حتما إلى تزايد العناء وانخفاض مستويات المعيشة لغالبية المواطنين إذا لم يتدفق الاستثمار المباشر، وتنخفض البطالة بشكل مؤثر، وتحسن الدولة من إدارتها للمرافق والخدمات العامة، وتعمل على تطبيق سياسة اجتماعية رشيدة تضمن توزيع ثمار النمو الاقتصادى بشكل أكثر عدالة. 

لهذا فإن الخروج من التناقض الراهن بين التحسن الكلى للاقتصاد وتدهور مستويات معيشة المواطنين ــ وهو مربط الفرس فى الاستقرار والأمن والتنمية ــ لا يكفى معه مجرد الاعتماد على اتخاذ القرارات السليمة على المستوى الكلى، وإنما النظر بجدية لما يعيق ترجمة هذا الإصلاح الهيكلى إلى تحسن حقيقى، وإن كان تدريجيا، فى حياة المواطنين. 

من هذا المنطلق فلابد من إعادة طرح ذات المقترحات والتحفظات التى طرحها الكثيرون طوال العامين الماضيين حول جوهر السياسة الاقتصادية المصرية وعلى رأسها أن مواجهة التوغل الإدارى للأجهزة الحكومية والفساد لن تتحقق بمجرد إصدار قانون جديد للاستثمار ولا بالقبض على موظف أو أكثر متلبسا بالرشوة بل بإعادة صياغة شاملة لمهام وأدوات مختلف الأجهزة الرقابية والحكومية فى المجال الاقتصادى، وأن التوسع المستمر فى الدور الاقتصادى للدولة بشقيها المدنى والعسكرى خاصة فى المجالات التى لا تمثل أهمية استراتيجية أو تنموية أو تتعلق بالأمن القومى يحتاج لمراجعة حتى لا يكون عائقا أمام نمو القطاع الخاص فى مناخ تنافسى متكافئ، وأن تراجع احترام القانون والدستور فى المجتمع لا يشجع النشاط الاقتصادى، وأن التضييق على الجمعيات والمؤسسات الأهلية التى يعمل غالبيتها فى المجال التنموى يضر بالفئات الأكثر احتياجا، وأن الإنفاق على المشروعات القومية يجب أن يكون فى إطار أكثر شفافية وتحت رقابة البرلمان والرأى العام حتى لا يهدر أموالا يحتاج إليها البلد فى مجالات أكثر إلحاحا، وأن الحفاظ على معدلات الاقتراض الداخلى والخارجى فى مساحات آمنة يجنب الأجيال القادمة سداد تكلفة النمو السريع المعتمد على الاستدانة، وأن الحماية الاجتماعية لن تتحقق من خلال برامج المعاشات والدعم النقدى وحدها بل يجب أن يصاحبها تحسن فى خدمات التعليم والصحة والنقل وتهيئة المناخ الدافع لمزيد من الاستثمار والتشغيل.

مع مرور عام على التعويم وعلى تطبيق حزمة الإصلاحات الهيكلية الكبرى، دعونا نعيد التفكير ليس فى سلامة هذه القرارات لأنها بالفعل كانت ضرورية ولا مفر منها، وإنما فى كيفية تطبيق السياسات السليمة التى تحد من التناقض المتصاعد بين ما يعتبره الخبراء والمحللون نجاحا باهرا وبين الواقع الذى يعيشه ملايين المصريين لأن هذا هو المعيار الوحيد والضمان الحقيقى لنجاح السياسة الاقتصادية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved