فــــى انتظــــار مصــــر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 20 نوفمبر 2013 - 7:00 ص بتوقيت القاهرة

طلال سلمانفجأة، وبغير مقدمات، وبعد دهور من اليأس، هبت رياح الانتفاضة على مجتمعات عربية راكدة تعيش خارج السياسة، وقد استهلك «النظام» الراسخ فيها، والمصفح بنجاحه فى استئصال البديل المحتمل، قواها الحية جميعا من أحزاب وتنظيمات وهيئات وجمعيات أهلية.

ولقد سقط هذا «النظام» الذى كان يتبدى جبارا بأسرع من التوقع، ثم توالى سقوط نماذجه القائمة فى العديد من الدول العربية كقصور من كرتون، وقبل أن تتمكن الانتفاضة من صياغة برنامجها السياسى وتجميع قواها المشتتة، والتى لا ينتظمها حزب أو جبهة.

على أن هذا «النظام» الذى تهاوى بأسرع من المتوقع لم يكن يتمثل فى شخص رأسه وحده، بل كانت له مقومات وجوده وأسباب قوته، بمعزل عن واقع أنه فردى وظالم ويستقوى بتفرده فى السلطة وسيطرته على أدواتها: القوة العسكرية والتحالف مع أرباب المال والنفوذ الذين غالبا ما كانوا يشكلون وكلاء أو شركاء فى المصلحة للأجنبى.

 

تفجرت الانتفاضة، إذن، فى غياب وحدة المجتمع مجسدة فى قوى سياسية حية، مؤهلة للتلاقى على برنامج للتغيير والبناء بعد إسقاط عهد الطغيان.

ولأنها تفجرت فى غياب وحدة المجتمع فقد كانت مهددة ــ وما تزال ــ بأن تتحول إلى أسباب للشقاق والمواجهات بين نظام قديم يرفض الاستسلام حتى لو فقد رأسه، وبين «نظام جديد» يكاد يكون بلا رأس موحدة.

وهكذا يتبدى المشهد فى العالم العربى سورياليا: فالماضى لما يسقط تماما وان كان فقد أمله فى أن يعود إلى موقع القرار، لكن المستقبل لا يجد رجاله، والحاضر يكاد يسقط فى فراغ الصراع على سلطة تبحث عن رأسها، وهو يجرجر أثقال الماضى.

لا مصر، الآن، هى مصر التى كانت، ولا صورة مستقبلها واضحة وقوى هذا المستقبل محددة، ثم إنها لم تعد مركز القرار العربى، ولا هى قاعدة الثورة العربية الجديدة، منطلقها ومصدر تزخيمها، ولا هى، بالتأكيد، مركز الثورة المضادة.

لقد أفقدها الطغيان موقعها كقيادة للأمة، من دون أن يمكنها من احتلال مركز القيادة فى موقع الضد. لا هى انتصرت على إسرائيل بحيث تتقدم عليها فى واشنطن، ولا أخرجها عجزها عن الانتصار من حقيقة أنها مرجعية عربية لا يمكن تجاهلها، وإن غفل نظام الطغيان فيها عن إعادة صياغة دور فاعل.

لم تعد قيادة الوطن العربى وحاملة راية المواجهة مع الاستعمار قديمه والجديد وضمنه العدو الإسرائيلى.. ولا هى استطاعت أن تبقى النموذج والقدوة فى أفريقيا وآسيا وعالم عدم الانحياز. وتقتضى الأمانة الاعتراف بأن مغامرة الرئيس الأسبق أنور السادات فى زيارة الكيان الإسرائيلى تمهيدا للصلح المنفرد معه قد أخرجت مصر من موقعها القيادى عربيا. ولعل بين المشكلات الجدية لانتفاضتها أنها لا يمكن أن تسلم بهذا الخروج أو الإخراج القسرى، وان تعذر عليها، حتى إشعار آخر، لعب هذا الدور الذى لا بديل منها فيه. فحكم الطغيان كان أضعف وأعجز من أن يشكل قيادة عربية.

 

ومن باب استعادة الماضى لتثبيت نتائج معينة يمكن الاستشهاد بالمحاولات التى بذلتها أنظمة طغيان «شقيقة» لنظام الطغيان فى القاهرة من أجل مصادرة دوره والتصدى لقيادة الأمة، والى أين أفضت تلك المحاولات.

لقد سقط صدام حسين فى فخ غروره، وهو يخرج شاهرا سيفه على جيرانه جميعا وشن حربا غير مبررة على إيران غداة ثورتها الإسلامية، التى أسقطت حكم الطغيان ممثلا بالشاه، دامت ثمانى سنوات، مقدما للعرب نموذجا كاريكاتوريا مفجعا عن حرب القادسية، ولو كانت أوضاع مصر سليمة وأهليتها للقيادة مؤكدة، لما تمكن صدام حسين من القيام بمغامرته الكارثية تلك..

كذلك فلو كانت أوضاع مصر سليمة وقيادتها مؤهلة لدورها القومى الجامع لما تجرأ صدام حسين على «غزو» الكويت.

وهكذا خسر العرب العراق بعدما كانوا قد خسروا مصر وموقعها القيادى الذى حمى الكويت الوليد استقلالها فى العام 1962 من مغامرة كان يمكن أن يرتكبها سلف صدام: الزعيم عبدالكريم قاسم.

كذلك فقد استطاع معمر القذافى، فى ظل غياب مصر عن دورها، أن يرتكب سلسلة من الأخطاء السياسية القاتلة، سواء فى دنيا العرب أو فى القارة الأفريقية.. فلا هو عوض مصر ولا هو أفاد ليبيا، بل كانت النتيجة أن سادت أجواء مستجدة ومصنعة من العداء بين العديد من دول أفريقيا والعرب.. من دون أن ننسى الأضرار التى أصابت مصر نفسها نتيجة مغامرات القذافى سعيا إلى تنصيب نفسه زعيما عليها مستغلا تهافت نظامها وإفلاسه مقابل غنى ليبيا بثروتها النفطية وقدرته على توظيف هذه الثروة فى تحقيق مطامحه السياسية التى لا سند لها شعبيا لا فى القاهرة ولا فى طرابلس ذاتها.

 

ذلك من الماضى، فلنعد إلى الحاضر وبعض وقائعه الموجعة:

بين هذه الوقائع أن ثلاثة من الحكام العرب قيد المحاكمة الآن، اثنان منهما حضوريا فى مصر، والثالث غيابيا فى تونس، فى حين أن حاكما رابعا قد قضى نحبه بطريقة مشينة تسىء إلى شعب ليبيا أكثر مما تسىء إلى معمر القذافى الذى كان يمكن اقتياده إلى محاكمة عادلة يشهد عليها العالم كله.

وبينها أن الحرب فى سوريا وعليها تفتقد مرجعية عربية مؤهلة لأن تتصدى لوقفها.. فيصير الأمر للدول، والدول أغراض ومصالح، وتصير جنيف بديلا من القاهرة.

لقد تغير العالم، ودار التاريخ بدوله دورة كاملة: فالروس ليسوا هم السوفييت الذين كانوا.. وعلى أهمية استقبال القاهرة للوزيرين الروسيين قبل أيام، ولنتائجها العملية، فلابد من التنبيه إلى أن الاتحاد السوفييتى بات ماضيا» لن يعود.

كذلك فإن دول عدم الانحياز لم تعد معسكرا ثالثا له حق المشاركة فى القرار الدولى من موقع متميز: صداقة من دون التحاق، وتعاون من دون تبعية.

 

أما الجامعة العربية فتنتظر من يلقى عليها تحية الوداع وقد غدت مؤسسة متهالكة من الماضى.

ولقد سقطت الجامعة العربية بالضربة القاضية فى سوريا الغارقة بدمائها.. فلا هى استطاعت أن توقف الحرب فى سوريا وعليها، ولا هى اعترفت بعجزها والتجأت إليه، بل أنها تحولت إلى أداة فى خدمة «الدول»، وكادت تكرر خطيئتها فى ليبيا حين أعطت ما يشبه التفويض لحلف الأطلسى كى يحقق.. «إرادة الشعب الليبى»!

كل العرب فى انتظار أن تعود مصر إلى ذاتها وإلى دورها الذى لا بديل لها فيه.

ولكن بعض هؤلاء العرب يحاولون أن يشتروا ثورة مصر بثرواتهم، مستغلين أوضاعها الاقتصادية الصعبة التى تسبب فيها الطغيان، والبعض الآخر من العرب يخاف من عودة مصر إلى دورها القيادى فيحرض عليها الغرب.. وثمة بعض ثالث يتهم «العهد الجديد» بأنه «ديكتاتورية عسكرية» ليطعن فى أهليته.

والكل يتابع بالقلب قبل العين وبالتمنى والثقة بقدرة الشعب المصرى تطور الوضع فى مصر، آملا إلا تخطئ قيادتها الطريق إلى المستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved