مائة عام من الفشل هنا والنجاح هناك

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 20 يوليه 2017 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

بما أننا فى شهر يوليو، فهذه مناسبة لإطلالة واسعة الزاوية على مآلات المشروعات السياسية الكبرى التى جربت فى الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد كان مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية فى مصر من أبرزها، وهو المشروع الذى كانت حركة الضباط الأحرار فى يوليو 1952، محاولة لتجديده. 
وكان المشروع القومى العربى بدوره واحدا من تلك المشروعات الكبرى التى انطلقت فى الإقليم فى الحقبة نفسها، بزعامة الهاشميين. 
أما ثالث هذه المشروعات فكان المشروع الصهيونى الذى انطلق مع وعد بلفور، وكان الرابع هو المشروع الإسلامى، الذى عرفت مرحلته الأولى باسم الجامعة الإسلامية، وقد آلت إلى الفشل بصعود القوميين الأتراك إلى السلطة فى الدولة العثمانية، ثم تجدد فى مرحلته الثانية بتأسيس حركة الإخوان المسلمين. 
لن يكون مفاجئا القول بأن جميع هذه المشروعات إما تقوضت، وإما تعثرت بشدة، باستثناء المشروع الصهيونى، الذى يمضى من نجاح إلى نجاح، فما هو التفسير؟ أو ما هى التفسيرات؟
سيقول المكابرون من الناس، لا سيما أولئك الذين يفسرون كل إخفاقاتنا بنظرية المؤامرة الأجنبية، إن السبب الرئيسى فى تقدم المشروع الصهيونى من نجاح إلى آخر هو المساندة غير المحدودة له من جانب الدول الكبرى، مع استمرار تآمرها علينا لإضعافنا فى مواجهة الإنجازات الصهيونية، إلا أن هذا التفسير يغفل أن الهاشميين الذين قادوا «الثورة العربية الكبرى» كانوا حلفاء للدولة نفسها، التى أصدرت وعد بلفور لليهود، وانتدبت لاحتلال فلسطين للتمهيد لمشروع الوطن القومى اليهودى، وهى – طبعا ــ بريطانيا العظمى، بل وظل الهاشميون حلفاء لهذه الدولة، ولوريثتها الأمريكية. 
سوف يستمر أولئك المكابرون فى جدلهم العقيم، فيقولون إن الهاشميين تعرضوا للخداع من بريطانيا، والرد هو السؤال التالى، ولماذا لم يتعرض الصهاينة لهذا الخداع؟! 
الإجابة السريعة – مؤقتا – هى أن العرب لديهم خصائص تجعلهم قابلين للخداع، وأقصد الخصائص السياسية والثقافية، وليس الخصائص البيولوجية، كما يفكر العنصريون، وكارهو الذات، أو كما يفكر العوام. 
أما الشق الثانى من هذه الإجابة فهو أن القيادة الصهيونية، وعموم مؤسسات المشروع الصهيونى، كان لديها من الخصائص والملكات والوسائل، ما يجعل مشروعها فى مأمن من الخداع، وليس هذا فحسب، بل وما يمكنها من التحكم فى التطورات الدولية ذات الصلة به. 
غير أن حكم التاريخ على القيادة الهاشمية الفاشلة للمشروع القومى العربى فى طوره الأول سوف تخف قسوته، عندما نتذكر أن إخفاق هذا المشروع فى طوره الثانى (الناصرى – البعثى) كان أكثر هولا، وآلاما، وضحايا، وأن هذا الفشل الأخير ينذر الآن بتمزيق العراق وسوريا، ويعصف الآن بمنطقة الخليج، والجزيرة العربية، ويأتى بإسرائيل إلى مركز قيادى فى تحالف عربى مزمع ضد إيران!!
ويقال – والعهدة على القائل – إن مصر نفسها تحولت على يد ورثة المشروع الناصرى إلى أشلاء دولة، وعند هذه النقطة نعود إلى أسباب تعثر مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية فى مصر، كما أطلقته ثورة 1919، وإلى فشل محاولة تجديده بقيادة الضباط الأحرار فى يوليو 1952. 
لا جدال فى أن رأس السلطة فى مصر الملكية –أى الجالس على العرش ذاته – هو السبب الأصلى فى الفشل الذى حاق بالمشروع الوطنى لتلك الثورة العظيمة فى التاريخ المصرى، فالملك سواء كان فؤاد الأول أم فاروق الأول لم يسلم قط بمبدأ أنه يملك ولا يحكم، ولم يقبل – البتة – سلطة الشعب من خلال حكومة الأغلبية البرلمانية غير المزورة، والتى كانت دائما وأبدا من نصيب حزب الوفد، الذى هو حزب ثورة 1919. 
وعموما فبسبب ديكتاتورية القصر لم يزد متوسط عمر الحكومات المصرية على عام واحد فى الأعوام الثمانية والعشرين (بين 1924و 1952 )، كما لم يستكمل أى برلمان فى هذه الحقبة مدته الدستورية مطلقا، فكيف لا يقضى هذا العبث على ديمقراطية وليدة؟! 
وفى اللحظة التى بدا فيها أن الضباط جددوا شباب المشروع الوطنى المصرى بإجلاء الاحتلال البريطانى، وكسر احتكار السلاح، وتأميم قناة السويس وإحداث طفرة فى التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية (مع تأجيل الشق الديمقراطى).. فى هذه اللحظة أدمج ذلك المشروع فى المشروع القومى العربى، من خلال الوحدة المصرية السورية، التى لم تدم طويلا، ولكنها كانت قد رهنت السياسة المصرية بالكامل لصراعات المشرق العربى، وللمزايدات حول القضية الفلسطينية، امتدادا إلى اليمن ثم شبه الجزيرة العربية كلها بالتبعية، وصولا إلى هزيمة 1967، التى كان فصلها الأول هو تعبئة القوات المسلحة فى سيناء للدفاع عن سوريا فى مواجهة «التهديدات الإسرائيلية باجتياحها».
أما فى اللحظة التى كان يمكن لجمهورية الضباط أن تستعيد عافيتها كمشروع وطنى مصرى، وهى لحظة الانتصار فى حرب أكتوبر 1973، فقد تناقضت المسارات، بطريقة أدت إلى تبديد المكتسبات السابقة واللاحقة، ففى الوقت الذى تحررت فيه السياسة المصرية من الارتهان لصراعات المشرق العربى، فإنها سارت تدريجيا نحو الارتهان للسياسة الأمريكية، وفى الوقت الذى تقررت فيه سياسة الانفتاح الاقتصادى سبيلا إلى النمو، بدأ التدمير المنظم للقطاع العام، والنهب المنهجى للثروة الوطنية بالفساد الادارى والسياسى، وفى الوقت الذى ألغى فيه نظام الواحد، وأطلقت التعددية الحزبية، جرى النكوص عن هذه السياسة، واضطهدت الأحزاب وحوصرت، وزورت جميع الانتخابات بلا استثناء، والأدهى أن السلطة تحالفت مع الجماعات الدينية المتطرفة فى الداخل، وفى الخارج من السعودية إلى أفغانستان، لتعود منذ الثمانينات من القرن الماضى إلى الصراع معها، مع استمرار التناقضات السابقة على حالها، وصولا إلى ثورة يناير 2011، بما سبقها، وصاحبها، وتلاها من صراع غير ديمقراطى بين مكونات السلطة، أو الدولة العميقة نفسها. 
وقد مثلت ثورة يناير فى مصر هى الأخرى لحظة كان يمكنها إطلاق المشروع الوطنى الديمقراطى المصرى فى «فورة قوة عظمى» بتعبير الراحل العظيم جمال حمدان، ولكن جرى ما هو معروف من تضافر عوامل محلية ودولية أسلمت السلطة إلى جماعة الإخوان المسلمين، ليسقطوا منها بدوى هائل بعد عام واحد، إيذانا بفشل المشروع الاسلامى هو الآخر، ليس فى مصر وحدها، بل وفى عموم الشرق الأوسط، لتعود مصر إلى تجربة طور آخر من أطوار نظام يوليو 1952، بين اليأس والرجاء. 
كل ذلك والمشروع الصهيونى يواصل النجاح –بكل المقاييس – داخليا ودوليا وإقليميا، على الرغم من أنه مشروع استعمارى عنصرى، يفترض أنه مضاد لحركة التاريخ الإنسانى، وهو فى هذه النقطة الأخيرة بالذات يتشابه مع مشروع الاسلاميين السياسيين المتطرفين الذين يعتقدون أن الدين هو أصل ومحور كل «الحقوق السياسية»، بما يعنى أن علينا أن نبحث عن أسباب أخرى لفشل المشروع الاسلامى المصرى و«العربى»، هى أيضا – بعينها ــ أسباب فشل المشروعين الوطنى الديمقراطى فى مصر، والقومى العربى هاشميا كان أم ناصريا وبعثيا.
أول ما يتبادر إلى الأذهان هو اختلاف المستوى الثقافى العام بين الشعوب العربية، وبين اليهود القادمين من أوروبا وأمريكا المتقدمتين ليشكلوا غالبية سكان الوطن القوى اليهودى، حاملين تقاليد التفكير العلمى، والحداثة السياسية، والإدارة الاقتصادية المتطورة، ومع أن هذا صحيح إلى حد كبير، فإنه ليس السبب الرئيسى لتفوق المشروع الصهيونى، وفشل سائر المشروعات التى تحدثنا عنها، والدليل الدامغ على ذلك أن المشروع الوطنى الديمقراطى فى الهند يتقدم هو الآخر منذ لحظة الاستقلال من نجاح إلى نجاح، رغم أن المستوى الثقافى العام للشعب الهندى ليس حاليا، ولم يكن فى الماضى أفضل من المستوى الثقافى العام للشعب المصرى، والشعبين السورى والعراقى، وهو ما حدث فى كوريا الجنوبيةو ماليزيا بل وتركيا المسلمة أيضا. 
إذن يكمن السبب أو الفرق فى نوعية النخبة، وبنية النظام السياسى، وأسلوب القيادة، وباختصار فقد كانت ديكتاتورية الحاكم المصرى والعربى والمسلم هى أصل كل المآس التى ذكرناها، والتى لم نذكرها، والتى ستتوالى إذا استمر الحال على ما هو عليه، فالديكتاتور لا يحيط نفسه إلا بنخبة مهترئة، وهو فى حصن حصين من المساءلة، والمراجعة والتصحيح، والأدهى أن غالبية الموارد والطاقات السياسية فى البلاد تخصص لتأمين النظام، خصما من التنوع والتجدد والتراكم والخبرات القادرة على تحديث وإدارة الدول، ثم إن الديمقراطية هى «وعاء الانصهار» للكراهيات والتناقضات الطائفية والمذهبية والعرقية والقومية، التى تكبتها الديكتاتورية دون حل، لتظل قابلة للانفجار، عند أول مناسبة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved