بغداد ومفهوم الكثافة المغيب والمصير المجهول

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الإثنين 20 يوليه 2015 - 6:00 ص بتوقيت القاهرة

إحسان فتحى


لا يخفى على جميع المعماريين والمخططين الحضريين اهمية مفهوم «الكثافة» فى عملية التخطيط والسيطرة النوعية على الطريقة التى تنمو بها المدينة وعلى البيئة العمرانية ككل، لكن المشكلة تنبع فى الحقيقة من عدم وضوح تعريف «الكثافة الحضرية»، فهناك «الكثافة السكانية» و«الكثافة السكنية» و«الكثافة العمرانية»، وعدد كبير آخر من الكثافات التى لا تعنينى فى هذا المقال. انا هنا تعنينى الكثافة السكانية، وأود أن أشير إلى الغياب شبه الكامل إلى أى نوع من السيطرة البلدية على تنظيم العمران فى بغداد، فلقد انتشرت خلال السنوات العشر الأخيرة ظاهرة تقسيم قطع الاراضى السكنية السابقة، والتى كانت مفرزة أساسا على مساحات تراوحت بين 200 و600 متر مربع، إلى قطع صغيرة جدا بعضها لا يزيد على 50 مترا مربعا! وبدأنا نرى تجار العقار يشترون بيوت الأعظمية والمنصور والعطيفية والكرادة وفى أى مكان متاح آخر ليقسموا الـ600 متر إلى 10 أدوار سكنية فى تجاهل كامل وتحدٍ صارخ للقوانين السارية، غير النافذة، والتى تحدد المساحة الصغرى المسموح بها بـ200 متر مربع.

فاذا اعتبرنا ان عدد سكان مدينة بغداد حاليا (2015) هو 8 ملايين نسمة وان مساحتها (ضمن الحدود البلدية) والتى اقدرها بنحو 900 كم مربع، وبالمناسبة لم استطع الحصول على أى رقم رسمى لا لنفوس بغداد وذلك لغياب الاحصاء الرسمى منذ فترة طويلة، ولا للمساحة المعتمدة لبغداد المدينة وليس المحافظة، فإن الكثافة السكانية تبلغ نحو 8850 شخصا لكل كم مربع، ان هذا الرقم هو عالٍ فى الحقيقة إذا ما قارناه بالمدن المشابهة الاخرى. استنبول مثلا يبلغ عدد سكانها نحو 15 مليون نسمة وبمساحة 5460 كم مربع، وبالتالى فإن كثافتها السكانية تبلغ نحو 2750 شخصا فى كم مربع. بينما القاهرة الكبرى فتقدر كثافتها بـ10 آلاف شخص فى كل كم مربع، بينما يسكن نحو 14 مليون شخص فى طوكيو على مساحة 2188 كم مربع لتبلغ الكثافة نحو 6370 شخصا لكل كم مربع، أى اقل من بغداد بكثير. طبعا المشكلة لا تكمن فى الارقام لأن الارقام لا تعنى شيئا فى الواقع، ذلك لأن طوكيو (زرتها مرتين) تعتبر بحق اكثر مدينة متطورة بالعالم. اما مدينة بغداد فهى تعتبر مدينة منهارة أو (فاشلة) بالمعنى التخطيطى والخدماتى.

وهذا يعنى اذا ما استمر غض النظر، أو السماح للكثافة العمرانية الجديدة، والتى كما اسلفت، فهى قد تزيد بنحو 6 اضعاف الكثافة المعتمدة السابقة، فإن كثافة البناء ستصل إلى درجات غير مسبوقة من التكتل والحشر السكانى مما سيؤدى بدوره إلى مشاكل اجتماعية ونفسية مدمرة! والغريب جدا جدا فى هذا الامر أنه بدأت تظهر بيوت بواجهة تبلغ فقط متر ونصف المتر على الشارع العام، أو مترين، أو ثلاثة امتار فى الحالات المرفهة! ان هذه الظاهرة غير المسبوقة فى أى مدينة عربية (عدا سكان القبور فى القاهرة) تعنى بكل بساطة ان امانة العاصمة، وبالتالى السلطة المركزية نفسها، قد فشلت فى السيطرة على تنظيم ديناميكية العاصمة. ان بغداد تنمو بنسبة 2% أو اكثر قليلا سنويا وهى نسبة عالية، وهى تعنى بأن عدد سكان بغداد سيصل إلى نحو 18 مليونا فى عام 2028! وعليكم ان تتخيلوا صورة المدينة اذا بقى هذا «الانفلات الحضرى» على حالته ان لم يزد سوءا.

انا اعتقد ان مدينة بغداد، هذه المدينة التاريخية العظيمة التى صمدت اكثر من 1250 سنة حتى الآن، تترنح حاليا من ضربات ساحقة تأتيها من جهات متعددة لا تكترث بوجودها اصلا. بغداد تصارع الموت بكل معنى الكلمة، فهى مهددة فعليا بالتفتت والتحول إلى كانتونات تحكمها ميليشات مسلحة، تماما كما نراه فى بعض افلام هوليود، حيث انعدام كامل للسلطة المركزية واضطرار سكان كل منطقة بأخذ زمام الأمور بيدهم. طبعا حالة بغداد هى انعكاس مباشر لحالة الدولة العراقية المهددة هى بوجودها، واذا لم يستطع العراقيون بمراجعة انفسهم للتوصل إلى حل دستورى وعقد اجتماعى مدنى حضارى على اساس المساواة بالمواطنة وليس المحاصصة الطائفية التى فرضها المحتل الامريكى واقتنع الكثير من المغفلين والجاهلين بها، فإن مصيرهم مهدد بالزوال الحتمى والتاريخ لا يرحم، ويوم لا ينفع الندم، ان سيبقى نادما!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved