الجيش والبرلمان والرئيس..

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 20 فبراير 2012 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

لوقت طالت حساباته وتداخلت اعتباراته بدا المشير «حسين طنطاوى» مقتضبا فى إيماءاته حول سؤال المستقبل ودوره فيه.


ربما جالت بمخيلته، وهو يحسم خياراته الأخيرة، مصائر الذين سبقوه على المقعد الذى يجلس عليه، وهى مصائر أقرب إلى التراجيديات الإغريقية.

 

الأقدار تضاربت مع الأدوار، الرجال ذهبوا إلى مصائرهم المحتومة بقصص اختلفت فى وقائعها وأحوالها، ولكنها ترسم معا صورة حقيقية للصراع على القوة فى مصر المعاصرة.

 

المشير الأول «عبدالحكيم عامر» مات منتحرا فى أعقاب هزيمة يونيو (١٩٦٧)، وهى نهاية مأساوية لرجل صداقته عميقة بـ«جمال عبدالناصر» وشعبيته طاغية داخل القوات المسلحة، ولكنه لم يكن مهيأ من الناحية العسكرية لقيادة جيش فى حالة حرب، وملابسات غيابه تثير حتى اليوم مساجلات ومشاحنات.

 

وكان قدر الفريق أول «محمد فوزى»، الذى أشرف على إعادة بناء القوات المسلحة بعد الهزيمة، وخاض بها سنوات حرب الاستنزاف، وهى بروفة بالسلاح لحرب أكتوبر، أن يدخل السجن بعد انقلاب مايو (١٩٧١)، غير أن القوات المسلحة طلبت من الرئيس السابق «أنور السادات» الإفراج عنه لأنها لا تحتمل أن يوضع قائدها العام داخل زنزانة سجن.

 

والفريق «عبدالمنعم رياض» كان قدره أن يستشهد فى عام (١٩٦٩) على جبهة القتال وخنادقها الأمامية، وعُد يوم استشهاده فى (٩) مارس عيدا للشهيد.

 

وكان قدر الفريق «محمد صادق» أن يعزل من منصبه بعد شهور قليلة من دوره فى حسم الصراع على السلطة لصالح «السادات» ضد خصومه الأقوياء، ولم تتمكن أسرته حتى اليوم من نشر مذكراته.

 

ثم كان قدر المشير «أحمد إسماعيل» القائد العام للقوات المسلحة فى حرب أكتوبر أن يموت متأثرا بمرض عضال بعد شهور قليلة من معاركها. وقد أطيح بعد الحرب مباشرة بالفريق «سعد الشاذلى» رئيس أركان حرب أكتوبر، وورث «مبارك» كراهية «الشاذلى»، وأدخله السجن، ولكن شاءت مقاديره أن يغادر الحياة فى جنازة عسكرية مهيبة فى نفس اللحظة التى كان الرئيس السابق يغادر قصر العروبة مطرودا مهانا.

 

مضت الأقدار فى قصصها المثيرة، أطيح بالمشير «عبدالغنى الجمسى» بعد فترة قصيرة من دوره كعسكرى منضبط فى إعادة السلطة لـ«أنور السادات» بعد نزول القوات المسلحة للشارع لضبط الأمن فيه فى أعقاب انتفاضة الخبز فى يناير (١٩٧٧)، وذهب الرجل إلى الظل جالسا تحت مظلة فى حديقة نادٍ رياضى.

 

كانت القصة الأفجع مصرع المشير «أحمد بدوى» فى حادث طائرة أقلته مع عدد من كبار القادة قبل اغتيال «السادات» بشهور قليلة، وهى فاجعة حولها تساؤلات وألغاز. وكانت قصة صعود وإطاحة المشير «عبدالحليم أبوغزالة» داخلة فى ترتيبات نقل السلطة بعد اغتيال السادات إلى نائبه «حسنى مبارك»، وبعدها بعشر سنوات من ضرورات الانفراد بالسلطة بضوء أخضر أمريكى.

 

ربما جالت مصائر من سبقه فى مخيلة المشير

 

« طنطاوى»، وأراد أن يدخل التاريخ من باب مختلف، أن يخرج طوعا من الرئاسة الفعلية التى تولاها لأكثر من عام، وأن يلتزم بتعهداته أمام الرأى العام التى أعلنها عند استلام السلطة، وأن ذلك قد يساعد على ترميم صورة القوات المسلحة التى تضررت بصورة خطيرة.

 

لم تكن تجربة المرحلة الانتقالية التى أدارها مقنعة بقدرته على قيادة البلاد فى مرحلة جديدة، والتظاهرات ضده والحملات عليه تقلق وتحرج المؤسسة العسكرية، فولاء القيادات العسكرية له مؤكد، ولكن الصورة العامة للقوات المسلحة شابتها جروح غائرة بصورة غير مسبوقة فى تاريخها، وهى جروح تنذر بتداعيات ومخاطر.

 

ربما جالت بخواطره أن لديه فرصة مختلفة، لم يسبق لقادة عسكريين آخرين أن أتيحت لهم، أن يقرر هو لا أن يقرر غيره، أن يسلم أمانة الدولة لسلطة مدنية منتخبة ويرحل فى هدوء «ليقضى ما تبقى من عمر مع أسرته وأحفاده». هذه الجملة بحذافيرها منقولة عنه إثر توليه السلطة بعد تنحية الرئيس السابق، ثم تكررت أمام مقربيه العسكريين قبل أسبوعين من إعلانه الصريح لوفد برلمانى بأنه «غير طامع فى السلطة ولن يترشح للرئاسة».

 

نحن هنا أمام رجل حسم أمره، ولأسباب معقدة تغلّب على نوازعه القديمة فى تقلد الرئاسة بعد« مبارك»، ولديه حساسيات تجاه اثنين من جيله ينتميان للمؤسسة العسكرية اللواء «عمر سليمان» والفريق «أحمد شفيق». كان يقول لمقربيه عندما تتواتر تكهنات بقرب تولى «شفيق» رئاسة الحكومة: «عندما يتولاها لابد أن تعرفوا أننى غادرت وزارة الدفاع».

 

بعد الثورة فكر الرجلان «سليمان» و«شفيق» فى دخول السباق على المنصب الرئاسى، الذى خسر الأول رهاناته عليه من موقع نائب رئيس الجمهورية، وخسر الثانى الرهانات نفسها من موقع رئيس الحكومة.

 

«سليمان» دعته سلطات سعودية أثناء وجوده فى ضيافتها للترشح للرئاسة، ونظمت لقاءات جمعته مع شخصيات إسلامية أخفقت فى التوصل إلى اتفاق. ظهرت الفكرة كلمح بصر واختفت بالسرعة ذاتها. أدرك «سليمان»، الذى كان المرشح الرئيسى للولايات المتحدة فى «خلافة مبارك»، حقائق القوة على مسرح سياسى أخذته الثورة إلى حسابات أخرى، غير تلك التى كان يراهن عليها على عهد «مبارك»، بينما لم يدرك «شفيق» الحقائق ذاتها، متصورا أن بوسعه أن يخوض انتخابات الرئاسة مستندا إلى حقائق النظام القديم ومساندة المؤسسة العسكرية. وهو وهم سياسى تدعوه طموحاته إليه.

 

اللعبة اختلفت قواعدها. فـ«سليمان» كان مرشح الإدارة الأمريكية لخلافة «مبارك»، و«مبارك» نفسه كان يفضل «شفيق» عليه، إلا أنه كان محكوما بضغوط عائلته لتوريث السلطة لنجله الأصغر.

 

الحقيقة الكبرى بعد إعلان المشير عدم نيته الترشح للرئاسة أن لا أحدا آخر من العسكريين، من المجلس العسكرى أو من خارجه، سوف يكون مرشحا باسم المؤسسة العسكرية. وهذه بذاتها نقطة تحول جوهرية تنبئ ببدء سباق من نوع جديد ومختلف إلى القصر الجمهورى.

 

فى الجو السياسى تكهنات وتسريبات عن مرشح توافقى محتمل بين العسكرى والجماعة، ولكنها لا ترقى إلى مستوى التفاهمات والاتفاقات.

 

الطلقة الأولى للسباق ــ بإعلان المشير ــ تدوى الآن فى مضماره، لكن المضمار نفسه لا تحكمه قواعد ولا تضمن صلاحياته نصوص، فالدستور غائب، والكلام عن انتخاب رئيس قبل الدستور فيه مراهنة على الفوضى باسم الدعوة إلى الاستقرار.. ولهذا السبب دعا أبرز المرشحين الدكتور «نبيل العربى» أمين عام الجامعة العربية الحالى إلى انتخاب رئيس جمهورية انتقالى لمدة عام واحد يوضع خلاله الدستور، لكن مشكلة هذا الاقتراح أن وقته فات، ولم يعد ممكنا تصحيح مساره.

 

ارتفعت أسهم «العربى» فى سباق هو عازف عنه والرسائل تصله من اتجاهات مختلفة، الجماعة تطلق رسائل متضاربة، والعسكرى رغم بعض توترات عابرة أثناء توليه وزارة الخارجية يدرك مزاياه، فهو رجل قانون دولى يحكمه ضميره ويقوده عندما تستغلق المعضلات أمامه. والشباب الغاضب قد يجد فيه بعضا مما جذبه فى الدكتور «محمد البرادعى»، خاصة أن الأخير أعلن تأييده لـ«العربى»، الذى كان بدوره قد وقع على وثيقة «الجمعية الوطنية للتغيير». هذه الاعتبارات تزكيه ولكن الاتفاقات تظل بعيده انتظارا لحسابات أخرى قد يتراجع قبلها رافضا الفكرة كلها.

 

ولا يعنى طرح اسم «العربى» استبعاد «منصور حسن» من فكرة التوافق، فهو الأقرب للعسكرى، ولكن بعض تصريحاته عن الترشح خفضت من حظوظه، هو يمانع ولا يمتنع، جاهز لخوض السباق، دون أن تكون عنده أوهام أن التوافق يرادف الفوز فى السباق. بتعبيره: «التوافق لا يضمن نجاحا، ولكنه يوفر عزوة تشجع على خوض الانتخابات». لهذا السبب فإن خوض «عمرو موسى» أمين عام الجامعة العربية السابق مؤكد، توافقيا أو رهانا على الصناديق وشعبيته، التى يعتقد أنها موجودة لدى الفئات الدنيا أكثر من جماعات المثقفين والشباب.

 

الفكرة الأخيرة ينتهجها الدكتور «عبدالمنعم أبوالفتوح» و«حمدين صباحى»، و«حازم أبوإسماعيل» والثلاثة غير مطروحين على مائدة التفاهمات.

 

المعركة الرئيسية فى «ما بعد المشير» تتجاوز رئاسة الدولة والتوافق عليها، والدستور ونصوصه، إلى تحديد موازين القوى فى بنيان الدولة بين ثلاثة أحجام رئيسية: العسكرى والبرلمان والرئاسة، بالترتيب نفسه. من مطالب الجيش و خطوطه الحمراء الجديدة عدم تدخل رئيس الجمهورية فى شئونه الداخلية، فما كان مقبولا منذ ثورة (١٩٥٢)، التى توالى على السلطة بعدها أربعة رؤساء بخلفية عسكرية لا يمكن أن يتكرر مرة خامسة مع رئيس مدنى تتحكم فيه على ما يقول العسكريون حسابات وأهواء السياسة.

 

لا تسييس للمؤسسة العسكرية فكرة جوهرية لها وجهان. الأول، إيجابى ومقبول يحفظ للمؤسسة العسكرية سلامتها ويضمن عدم تدخل الأهواء السياسية فيها، وأن تظل بوتقة دمج وطنى للمصريين بكل تنوعاتهم الفكرية والسياسية والدينية. والثانى، تحوطه تساؤلات حول ما إذا كانت مصر مُقدمة بصورة ما على نموذج تركى معدل يضمن للمؤسسة العسكرية استقلالها على نحو قريب فى شكله العام من استقلال القضاء، ولكنه مدعوم بقوة السلاح وقدرته على الحسم.

 

من المقترحات المتداولة: إنشاء «مجلس أعلى للدفاع» عضويته للعسكريين وحدهم على نسق «المجلس الأعلى للقضاء» من ضمن مهامه الرئيسية مسألة تنظيم الأوضاع الداخلية وفق قواعد مستقرة تضمن سلامة التصعيد للمواقع الأعلى، بما فيها موقع القائد العام للقوات المسلحة.

 

هذه الصيغة تجعل من منصب وزير الدفاع مسألة ثانوية، على الأغلب سوف يكون مدنيا، سلطاته الفعلية محدودة، بينما الصلاحيات والتفويضات فى يد رجل آخر يتوالى اختياره من داخل المجلس الأعلى للدفاع، لا من القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذى يتولاه رئيس الجمهورية.

 

البرلمان هو الطرف الرئيسى فى منازعة الجيش على تحديد الأحجام، والأكثرية فيه مرشحة لتشكيل حكومة يخولها الدستور الجديد ــ كما هو متوقع ــ صلاحيات تنفيذية واسعة قد تفوق صلاحيات الرئيس. اختبارات القوة سوف تبدأ على نحو جدى بعد انتخابات الرئاسة، وقد تميل القوة الغالبة فى البرلمان إلى تحجيم دور الرئيس إلى مستوى شرفى، وهذه مسألة تتصادم مع الطبيعة المركزية للدولة المصرية وما اعتادت عليه، والكلام عن نظام مختلط رئاسى برلمانى يقتضى إسناد مهام سيادية فى الدستور للرئيس، الدفاع والأمن والخارجية أساسا، وإلا فإن ذلك ينزع عن الرئاسة اعتبارها واحترامها، ولهذا تداعياته التى قد تفضى فى ظروف مختلفة لنزول جديد للجيش.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved