عن الهرب إلى مجلس الأمن لاسيتلاد (دولة فلسطين) بأصوات أعدائها!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الخميس 19 نوفمبر 2009 - 11:54 ص بتوقيت القاهرة

 لا مجال لأن يطمئن أى عربى، فى أى أرض عربية، إلى غده مع واقع أن إسرائيل تكاد تكون أقوى من الدول العربية مجتمعة، ليس بالسلاح فحسب، وإنما بحقيقة أنها تملك مشروعا استعماريا ــ استيطانيا يهدف لأن يجعلها «الدولة المركزية» لكل هذه الأرض العربية، بجمهورياتها وممالكها وإماراتها ومشيخاتها متعددة الرايات متناقضة الأهداف، المختصمة فيما بينها إلى حد الحرب، والمضيعة قضيتها المقدسة فلسطين التى شكلت وتشكل الآن ولسوف تشكل على الدوام عنوان تحرر العرب وتقدمهم وامتلاكهم الحق فى صنع مستقبلهم بقدراتهم.

وإذا ما توخينا الصراحة فإن رفع الصوت بمطلب انتزاع قرار من مجلس الأمن الدولى بإقامة «دولة فلسطين» على بعض البعض من أرضها التاريخية، يتجاوز القدرات العربية، حتى لو اجتمعت، وحجم التأييد الدولى الذى يمكن الحصول عليه فى غفلة من العدو الإسرائيلى، الذى لا يغفل، فإن تغافل تكفلت الإدارة الأمريكية بإسقاط هذه الفكرة التى استولدها الإفلاس السياسى ولسوف يئدها العجز عن دعمها والسير بها إلى تجسيدها كواقع سياسى فوق «الأرض المعادية» للفلسطينيين خصوصا، وللعرب ومعه المسلمون عموما.

هل من الضرورى تنشيط الذاكرة بالوقائع الدالة على الفرقة والانقسام إلى حد الاشتباك فى ما بين الفلسطينيين والفلسطينيين، والعرب والعرب، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة فى أوائل هذا العام؟!

لقد هرب النظام العربى، ومن ضمنه «السلطة الفلسطينية» التى لا «سلطة» لها من المسئولية البديهية فى مواجهة الحرب الإسرائيلية، على الأرض، وبالموقف السياسى الحاسم، فاستعاض عن ذلك كله برحلة ترفيهية إلى الأمم المتحدة فى نيويورك، حيث أمضى الوزراء وبعض معاونيهم ومعهم الأمين العام لجامعة الدول العربية أياما فى مناقشات ومسامرات ومساومات وحملة علاقات عامة، بينما النار الإسرائيلية تحصد أرواح الأطفال والنساء والرجال والبيوت ومقارات وكالة الغوث الدولية والمستشفيات والمستوصفات وأشجار الزيتون وتقطع الطرق على نجدة الجرحى واستنقاذ الأولاد والبنات الذين ضربهم اليتم قبل أن يتذوقوا طعم الحياة.


بالمقابل استمر جيش الحرب الإسرائيلى فى تدمير معالم العمران فى غزة، وهى دار اللجوء الثالث لأهل فلسطين، تاركا المسؤولين العرب يستجدون وقفا لإطلاق النار (ليس أكثر)، مطمئنا إلى أن غالبيتهم تريده أن يمضى قدما فى استئصال أولئك «الأصوليين» الذين فازوا فى الانتخابات التشريعية فى غفلة من أصحاب الأمر، ثم انقلبوا عليهم، بل وعلى النظام العربى، جميعا فحلت عليهم اللعنة واستحقوا العقاب.

دولة فلسطينية بقرار من مجلس الأمن والسلطة التى لا سلطة لها سلطات محتربة! دولة فلسطينية والحروب العربية ــ العربية تمتد بنيرانها من أقصى الأرض اليمنية إلى قلب العراق محيطه، فتهدد كيانات بالسقوط، وتؤسس لفتن يمكن أن تمتد دهورا وتشمل المشرق جميعا وتلامس السنة نيرانها بعض المغرب، فضلا عن دول إسلامية عديدة؟!

دولة فلسطينية و«رئيس السلطة» مستقيل ولا مرجعية تقبل استقالته او ترفضها، ومؤسسات «الثورة الفلسطينية» طوت إعلامها وصارت إدارات، تمويلها أمريكية، وشرطة قيادتها الفعلية إسرائيلية، والنظام العربى يتابع الترويج للمبادرة العربية التى نسيها من طرحها بصياغة اميركية تم تعديلها ــ اضطرارا فى بيروت ــ لتضمينها نصا مبتورا حول «حق العودة»، إكراما لمضيف القمة الخائف من التوطين وتأثيره على الديمغرافيا اللبنانية؟!

أنه مشروع وهمى يعبر عن اليأس المطلق من السياسة الرسمية التى اعتمدها النظام العربى، ومن ضمنه السلطة الفلسطينية، حتى اليوم، كما أنه يمثل هروبا إلى الأمام فى رحلة محكومة بالفشل الذى سيقلب اليأس إلى استسلام أو إلى النقيض تماما: اعتبار النظام العربى هو المسئول عن كل ما أصاب الفلسطينيين، مع سهولة تحويل الاتهام إلى «العرب» عبر تغذية الشوفينية الفلسطينية ــ وهى مؤسسة قوية داخل الجسم السياسى الفلسطينى، بل وفى صفوف هذا الشعب الشريد المطارد حتى فى رزقه، والذى تقفل يوما بعد الآخر ما كان مفتوحا أمامه من أبواب فى بعض الدول العربية (لاسيما النفطية منها) ليبنى لغيره مقابل ما يمكنه من إعالة أبنائه وتعليمهم، ليكونوا فى خدمة السادة الأغنياء ممن كانوا أهلهم من العرب.

إن هذا المشروع الوهمى يتجاوز كونه إعلانا بسقوط سياسة المساومة على الحقوق الوطنية التى أخذت فيها إسرائيل من العرب بالمفاوضات أكثر مما أخذته منهم بالحروب المتكررة وعبرها.

من السهل، طبعا، اتهام الإدارة الأمريكية أساسا، ومعها الاتحاد الأوروبى، مضافا إليهما الاتحاد الروسى والصين، بالتواطؤ على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى فى «بعض» أرضه ولكن.. كما أن القانون لا يحمى المغفلين فإن السياسة الدولية لا ترحم المفرطين الذين يحاولون شراء السلطة بأرضهم وبحقوق أهلها فيها.

إن الاعتراف بالعجز عن مواجهة الاجتياح الإسرائيلى لما كان من «حقوق» للسلطة الفلسطينية فى بعض البعض من أرضها، ليس عامل قوة يبرر الاحتكام إلى المصدر العاجز للشرعية الدولية الذى صار أمينها العام مجرد موظف بسيط يتلقى توجيهاته من بعض موظفى الخارجية الأمريكية، وليس حتى من وزيرها، فضلا عن الرئيس ــ الملك فى البيت الأبيض.

ثم إن النظام العربى الذى عجز عن إصلاح ذات البين بين «السلطتين» المقتتلتين فى بعض الأرض الفلسطينية التى ما تزال محتلة، سواء فى الضفة الغربية التى تتناقص مساحتها يوميا نتيجة تمدد المستوطنات القائمة بزياداتها المنهجية، لتغدو المشكلة «إنسانية الطابع» فيصور وقف النمو وكأنه تشريد جديد لهؤلاء البؤساء الذين جاءوا من أربع رياح الأرض هاربين من الاضطهاد العنصرى أو الدينى لائذين «بوطنهم» التاريخى «دولة يهود العالم» فى فلسطين المحتلة.

إن هذا النظام العربى المعلن إفلاسه والعاجز عن عقد اجتماع لأطرافه، ولو فى رحلة استجمام، لن ينقلب فجأة إلى قوة سياسية جبارة تجبر الإدارة الأمريكية وسائر الدول الكبرى فى العالم، على تثبيت حق الفلسطينيين فى أرضهم، أو فى البعض منها.

إن هذا النظام العربى قد وقف يتفرج على الاحتلال الأمريكى للعراق، ثم على إقدام الاحتلال على تمزيق وحدة الكيان السياسى وعلى إشعال نار الفتنة بين العراقيين، تمهيدا لأن يكرس نهب الثروة الوطنية للعراق فى غفلة من أهله داخل «دولته» المهددة بالخراب والتفكك الآن، وأمام عيون أهل النظام العربى جميعا.

وهذا النظام العربى يقف الآن متفرجا، وربما مستمتعا، بتلاحم أسلحة البر والبحر والجو فى كل من دولتى اليمن والسعودية، ضد الخارجين على قيادة الرئيس على عبدالله صالح، والذين هربوا من نيران طيرانه ومدفعية الميدان وطوابير جنود الوحدات الخاصة التى أعدها لحراسته فى قصره، ولحماية مشروعه فى توريث نجله الفذ، حكم اليمن.

إن الصور الفضيحة للغارات التى يشترك فى شنها الطيران الحربى اليمنى الروسى المنشأ مع الطيران الحربى السعودى أمريكى المنشأ مع تنويعات فرنسية وبريطانية، على أولئك البؤساء من «الحوثيين» الذين يواجهون بقوة إيمانهم بحقوقهم فى أرضهم، والذين كانوا إلى ما قبل حين من الزمن «حلفاء للسيد الرئيس»، وقد استعان بهم فى حربه على «أصولية الزندانى» ومن معه، لشهادة فاضحة على التردى المخزى فى أحوال العرب نتيجة للنهج القمعى الفظيع الذى يعتمده «النظام» فى مواجهة من يخطر ببالهم أن يرفعوا الصوت بالاعتراض مطالبين بحقوق المواطن بل الرعية فى أن تعيش فى أرضها ومن أرضها ولأرضها، وأن يصون النظام كرامتها ولا يطاردها بالطيران لشكه فى «ولائها»، ثم يستعين عليها بالنظام المجاور، بذريعة حصر النار ومنع تمددها إلى دول الجوار.

إن هذا النظام العربى يستقوى على شعوبه مقابل التخاذل عن مواجهة أعداء الوطن، أو «من كانوا» فى موقع أعدائه فصالحهم أو هادنهم أو واعدهم على الاعتراف والصلح لو بعد حين، مقابل أن يراعوه فيحفظوه ويتحالفوا معه ضد الأعداء المشتركين من أهل الإرهاب والفتنة والخارجين على الدين الحنيف الذى يقول بخضوع الرعية لأولى الأمر خضوعا مطلقا لا يداخله الشك أو الخديعة أو نصرة الشيطان على أهل الإيمان!

هل من الضرورى التذكير بما أصاب العرب عموما والفلسطينيين خصوصا من ضياع للحقوق الوطنية، وتمزق فى العلاقات البينية، وهزيمة أمام العدو الإسرائيلى الذى لا يفتأ يمد احتلاله لأرضهم وبحارهم وسمائهم، والأخطر: لإرادتهم، حتى تبتدع «السلطة» هذا المخرج الذى لن يؤدى إلا إلى مزيد من الخسارة وضياع الحقوق الأصلية، مقابل زيادة بند على لائحة المطالب عبر إدراج مشروع القانون المفترض تقديمه إلى مجلس الأمن كبرهان جديد على «تنكر الإدارة الأمريكية لتعهداتها» وخذلان أوروبا، وتخلى العرب عن قضيتهم المقدسة؟!

إن الهرب من الداخل إلى الخارج لن ينفع إلا فى زيادة يأس الفلسطينيين من أهلهم العرب، ثم من أنفسهم، بكل النتائج التى يمكن أن تترتب على هذا التخلى، وأبسطها أن يندفع هذا الشعب الشريد إلى تمثل المقولة اليهودية الشهيرة بلسان شمشون الجبار» علىّ وعلى أعدائى».. مع إضافة العرب إلى خانة الأعداء، بل وإلى وضعهم فى الصدارة.

وللفلسطينيين تجارب مرة مع النظام العربى كاد يغريهم عبرها بتقديم العداء له على عدائهم للاحتلال الإسرائيلى،
ولسوف يكون هذا الهرب من المواجهة الذى يلجئ السلطة إلى أوهام القرارات الدولية، مرة أخرى، مناسبة جديدة لكى يتحول الفلسطينيون بعدائهم إلى النظام العربى بدلا من إسرائيل، لأنهم لن يروا فيه «المتواطئ» على حقوقهم فى أرضهم فحسب، بل إنه الأبدى بالمواجهة لأنهم يمنعهم ــ بالقوة كما بالحيلة ــ عن مواجهة عدوهم الأصلى.

وتراث الخبرة بالنظام العربى غنى جدا، وليس مما يفيد الغد العربى أن تتوسع رقعة المواجهة بين هذا النظام وبين شعب فلسطين الممزق شعوبا والذى تختطف منه البقية الباقية من أرضه بتواطؤ عربى معلن مع الاحتلال الإسرائيلى.

وسلام على القدس العربية وحوالى 40 فى المائة من البناء الاستيطانى يقام على أنقاض ملكية أهلها الشرعيين لها، لاستكمال الحصار حول المسجد الأقصى الذى بارك حوله، والذى يكاد لا يجد بين المسلمين عربا وغير عرب من هو مستعد لنجدته وحفظه بكل قداسته الاستثنائية..

ومنذ هزيمة 1967 كان الاحتلال الإسرائيلى يستثنى القدس من مشاريعه الاستيطانية، وها هو يكاد يجتاحها جميعا بمستوطناته.. وأمام عيون العرب ومعهم مجلس الأمن الدولى جزيل الاحترام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved