حكايات الصيف

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 18 يوليه 2023 - 9:29 م بتوقيت القاهرة

نلتقى فى الشتاء أحيانا ولكنها فى الصيف لا تفارقنى. أتحدث اليوم عن أغنية الجاز الشهيرة «Summertime»، بصوت كل من إيلا فيتزجيرالد ولويس أرمسترونج. أسمعها فتسحبنى برقة كلماتها وعذوبة لحنها لنعيش معا ذكريات أيام وأمسيات كانت قاسية فى حرارتها شديدة فى رطوبتها ممتعة فى خلاصاتها وفيما أضافته إلى سجلات عواطفى وتجاربى. بعض أيامى وأمسياتى مرت ولم تكن الأغنية صيغت ولا لحنت ولا وصلت إلى آذان زبائن محال وغرف الجاز المغلقة والمعتمة. سمعت الأغنية فى سنوات لاحقة، كنت أنا الذى سمحت لذكرياتى عن أيام الصيف وأمسياته بأن تندمج، وإن أمكن تنصهر، فى أجواء هذه الأغنية. أو حدث العكس منذ هيمن اللحن واحتل موقعا عندى لم يغادره لسنوات عديدة، فما أن تمس مسامعى نغمة من نغمات الأغنية إلا وتتدفق سيول ذكريات يوم فى الهند وليلة فى لاس فيجاس وأمسية فى جزيرة كابرى وساعة أو لحظة بعينها فى شرفة شقة تطل على المحيط الهادى فى فالبراييزو كان يسكنها بابلو نيرودا.
●●●
لم تكن الأغنية كتبت عندما كنا «نذاكر» لامتحان الثقافة العام وبعده امتحان التوجيهية. فى الموعدين كان الصيف على أشده. أذكر أننا كنا عند الفجر نرسل الرسائل لبعضنا البعض نتنبأ بيوم قائظ. ففى الفجر تهب علينا فى شرفات منازلنا ريح من جهة حى المدابغ تحمل رائحة كنا نكرهها، نتوقع القيظ لأن نسمات الفجر تأتى من الجنوب محملة برائحة الدباغة فى اتجاه مناطق وسط القاهرة حيث كنا نسكن. كانت ريح الجنوب مؤشرا له اعتباره على يوم شديد الحرارة. عشت بعدها لا تترامى إلى حاسة الشم عندى هذه الرائحة وأينما كنت أو حللت إلا وتذكرت مذاكرة الثانوية وشقاوة المراهقين والمراهقات من الجيران عند الفجر. مرت السنوات واستمعت إلى أرمسترونج فحلت أغنيته والحمد لله محل رائحة المدابغ كمنشط لذاكرتى عن الصيف وقيظ نهاره وعن لياليه وأمسياته وليس عن الفجر وحده.
●●●
كنت أسمعها، أقصد الأغنية، فترانى أستسلم لقيادها فى رحلة نتنقل فيها معا بين ذكرياتنا مع رطوبة قصوى فى العاصمة الأرجنتينية ورطوبة أقل فى ميناء مار ديل بلاتا وطقس معتدل فى منتجع بونتا ديل إيستى بالأوروجواى المجاورة. نتنقل هربا من قسوة مناخية فى بيونس آيرس إلى غابة من تصرفات وسلوكيات أكبر طبقة وسطى فى أمريكا الجنوبية فى موسمها المفضل. قضيت أسبوعا فى قرية مجاورة فى ضيافة عائلة زوجتى الأرجنتينية، أقصد الجانب الأرجنتينى من عائلة زوجتى الممتدة فى جميع الأرجاء. من هناك أنتقل بذكرياتى عن الصيف فى أمريكا اللاتينية إلى منتجع بونتا ديل إيستى، الموقع المثالى الذى خططته ونفذته فى أقصى شرق الأوروجواى طبقة أغنى الأغنياء فى القارة من فنزويلا وكولومبيا شمالا إلى الأرجنتين وشيلى جنوبا ليصبح المنتجع الأمثل لتقضى فيه شهور صيفها.
كان الصيف فى بكين أقل ضراوة من صيف دلهى وسهول شمال الهند عموما. كان محتملا. أقول محتملا لأننا، وأقصد سكان بكين، المدينة التى يسكنها موظفو الوزارات والمصالح المركزية وكبار المسئولين فى الحزب والدبلوماسيون وأنا منهم، عرفنا مسبقا وقبل أن نأتى بإرادتنا أو مجبرين أو منفذين لعقوبة أو أخرى أن العاصمة الصينية نموذج لا مثيل له فى تطرف الموسمين، موسم الشتاء وموسم الصيف. لم أسمع طيلة إقامتى فى بكين إجابة شافية لسؤال عن سر اختيار الأباطرة لها عاصمة. أفهم أن أباطرة وسلاطين المغول ومن بعدهم المستعمرون الإنجليز اختاروا دلهى عاصمة حكمهم لأنهم خططوا ليقضوا أشهر الصيف على سفوح جبال الهمالايا فى منتجعات مثل مسورى وسيملا المطلة على سهول الهند الشمالية. أظن أن الأمن والعيش المستمر فى ظل احتمالات غزو من قبائل وسط وشمال آسيا حبذ اختيار بكين، المركز التجارى والإدارى والثقافى والأقرب لدفاعات الأباطرة عبر القرون ومنها أسوار الصين العظمى.
●●●
استيقظت صباح اليوم على لحن الصيف. لا أعرف إن صدر من بيت جارتى المحبة لأغانى وموسيقى مرحلة بعينها من القرن العشرين أم كرسالة من جار أبعد قليلا ينبهنى إلى أن درجة الحرارة المتوقعة قد تتجاوز كل الاحتمالات وربما أيضا قدراتنا على تحملها. كان اللحن كافيا ليذكرنى بإيطاليا وهى تقترب من شهر أغسطس أشد شهور السنة قيظا ورطوبة. كان فعلا خلال سنوات إقامتى فى روما الشهر الذى لا يطاق، ومع ذلك اكتشفت فيه حسنة أو أكثر. روما المدينة المكتظة بالسيارات رغم صغرها تقضى أيام منتصف الشهر تكاد تخلو من السيارات فتصبح أكثر بهاءً وجمالًا، وهى بالتأكيد إحدى المدن الأجمل فى العالم، على الأقل حتى غادرتها. أهلها يهربون منها فى أيامها الصعبة بينما المدينة الصبورة الرائعة تتحمل تجاوزاتهم معظم أيام السنة.
●●●
من الذكريات المصاحبة للحن الصيف تفاصيل ساعات وأيام قضيتها على فترات فى بيروت. بيروت فى الصيف، لمن لا يعرف، مدينة لزجة إن صح الوصف ولو متجاوزا. فالرطوبة فى مثل هذا الشهر صعب أن يتحملها حتى زوارها من المصريين. لكن بيروت المدينة الواقعة على شاطئ البحر لا يفصلها عن قمم جبال قريبة أكثر من ساعة بالسيارة. يغادرها الغاضب والمتلهف على الهرب من الحر والرطوبة، يغادرها متوترا وبعد ساعة أو أقل يتمدد سعيدا متفائلا على حس نسائم باردة على أريكة يشاهد منها شواطئ بيروت الملتهبة تحت شمس لا ترحم ولزوجة تخنق.
●●●
أمامى فى هذه اللحظة الشاشة تنقل لنا مشاهد من الخرطوم عاصمة السودان. المشاهد لا تصف سخونة الجو وليست فى حاجة لذلك. الأسفلت الساخن بفعل الصيف ينفث دخانا والقنابل الساقطة من مدافع وطائرات وصواريخ تخرب طرقا وتدمر مساكن ومدارس ومشافى، كلها وغيرها من خطايا العنف اختلطت فى ثورة غضب. ثورة تشعلها عواصف الغضب المنبعثة من كل فم وصرخات نساء تعبر عن مأساة أمة. فجأة أسمع لحن الصيف فتغمض العينان ويغيب صوت الأزيز والمفرقعات وتعود إلى الوجوه السمراء على الشاشة ابتسامات كانت دائما الأحلى. إنه ولا شك مفعول لحن سحرنى ذات يوم قبل نصف قرن وما يزال سحره فاعل ومنتصرا على تجاوزات صيف مريع وأعمال صناع فساد وجوع وحرب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved