كلام إلى الأجيال الجديدة: تجربة السبعينيات

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 17 ديسمبر 2014 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

كانت تجربة السبعينيات ملهمة بقدر ما هى مؤلمة.

ألهمت شبابها غضبا مبكرا وتمردا واسعا على كل ما هو مزيف فى الفكر وكل ما هو ادعاء فى السياسة.

كان الغضب حادا وعاصفا بلا مهادنة مع نظام انقلب على أساس شرعيته وفرط على نحو فادح فى النتائج العسكرية لحرب أكتوبر وبلا تقبل لأية تبريرات للانقلاب الاجتماعى على إنجازات يوليو.

لخص عنوان مسرحية بريطانية شهيرة: «انظر خلفك فى غضب» التمرد السبعينى فى مصر.

ووجد الغضب تعبيره السياسى فى تيارين رئيسيين.

أولهما «التيار الماركسى» الذى بدأ فى إعادة ترتيب صفوفه وبناء تنظيمات جديدة على أطلال ما جرى حله فى الستينيات، وقد كان صوته مسموعا نسبيا فى الجامعات المصرية أكثر من أى تيار آخر فى الفترة ما بين تظاهرات (١٩٦٨) التى احتجت على الأحكام المخففة لقادة الطيران وتظاهرات (١٩٧٢) التى ضغطت من أجل حرب تحرر الأراضى المحتلة بالقوة.

وثانيهما «التيار الناصرى»، الذى لم يكن قد تبلورت له رؤية خارج حسابات السلطة، كان جمهوره عريضا لكنه بلا تنظيم يقود طاقة غضبه التى تجاوزت «منظمة الشباب» وما كانت تتعرض له من ضغوط قاسية انتهت بتصفيتها.

فى ديسمبر (١٩٧٤) أعلن لأول مرة على نحو قاطع طلاقا سياسيا نهائيا مع أية رهانات على نظام «أنور السادات» وخرجت قيادات جديدة من أوساط الطلاب تناهضه سياسيا بلا هوادة.

فى لحظات التحول الحادة تتصارع التوجهات والأفكار والمصالح بضراوة وتكاد تغيب عن المسارح السياسية الملتهبة أية مساحات رمادية.

هذه حقيقة سجلها التاريخ المصرى مرة بعد أخرى.

بذات ضراوة الحملة على «جمال عبدالناصر» التى حاولت هدم كل قيمة ومسح كل إنجاز تبدت قوة المقاومة وخرجت قوة شابة من داخل الجامعات أكثر راديكالية من أية أجيال سبقتها وأكثر التزاما بأفكار رجل لم تره مرة واحدة فى حياتها.

لم تكن سياسات «أنور السادات» قد أخذت مداها لكن الحملات الإعلامية أشارت إلى انقلابات استراتيجية واجتماعية أكثر خطورة تلوح فى الأفق القريب.

ككل فعل فى التاريخ فإن له ردة فعل.

أمام مشروع الهدم تحركت روح جديدة تنتسب إلى مشروع «عبدالناصر» لا نظامه، تنظر إليه كمثل أعلى لكن لا تقدسه، ترفض الانقضاض على تجربته دون أن تتردد فى نقدها من موقع الالتزام.

لم يكن بوسع المجموعة الضيقة التى أسست «نادى الفكر الناصرى» بجامعة القاهرة ــ تسعة طلاب من كليات مختلفة ــ أن تتوقع الأثر المستقبلى بالغ الأهمية بأى معنى سياسى أو تاريخى لما قرروه.

نحن نتحدث عن شبان بعضهم أقل من عشرين سنة امتلكوا شجاعة التحدى فى وقت حرج وعبروا عن احتياج سياسى لبلد تاهت خطاه بينما رئاسته تبحث عن ذاتها.

لم يمض وقت طويل حتى آلت إلى الناصريين الجدد قيادة الحركة الطلابية فى الجامعات المصرية كلها وبسطوا هيمنتهم على اتحاد طلاب الجمهورية قبل الانقضاض على لائحته الديمقراطية بعد انتفاضة «الخبز» عام (١٩٧٧).

فى لحظات الصعود كما لحظات الانكسار تتأكد قوة الأفكار فى حسم كلمة التاريخ الأخيرة، قوة الضمير العام فوق سطوة السلطة، والوزن النسبى لما ترتب على الاحتجاج السياسى زلزل مكانة الرئيس الراحل.

فقد مال الناصريون الجدد إلى تجديد فى الخطاب ونزع أية قداسة عن نقد تجربة يوليو من داخلها ودمج قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان فى صلب مشروعهم الفكرى بجانب قيم التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى، ولم تكن تلك رحلة فكرية سهلة على أى نحو لكنها كانت ضرورية فى كل حال.

كانت المساجلات الفكرية والسياسية بين التيارين «الناصرى» و«الماركسى» الفرصة الأكثر جدية لاكتساب مهارات الحوار والإقناع والتأثير، وأن يكون ذلك فى الهواء الطلق.

ولم يكن للتيار الإسلامى الأثر نفسه، فالحوار شبه منعدم والصدام ماثل فى المشهد السبعينى.

وباليقين فقد منحت الحركات الطلابية مصر أغلب نخبتها السياسية على مدى أربعة عقود بأكثر مما ينسب للأحزاب السياسية مجتمعة باختلاف مشاربها الفكرية.

حيث حرية التفكير والاعتقاد السياسى تبنى الكادرات عن اقتناع حقيقى وتترسخ القيم الوطنية العامة، وقد كان أثر «نادى الفكر الناصرى» أبعد مما توقعه مؤسسوه وأعمق من أن يخطر ببالهم.

النخب السياسية لا تولد من فراغ ولا بقرار من سلطة أيا كانت، وحيث تعجز الأحزاب والمؤسسات الرسمية فى ضخ دماء جديدة بشرايين المجتمع فسوف تتقدم قوى من خارج السياق لتتولى المسئولية.

وهذا ما حدث فى ناد بلا إمكانات تقريبا ولد فى لحظة تحولات قاسية.

إن أية قراءة موضوعية فى أسماء من شاركوا فى تأسيسه أو انضموا إلى عضويته أو تأثروا بأطروحاته تكشف دون لبس أنه أكبر مدرسة كادر سياسية فى الأربعين سنة الأخيرة وتعلن ما هو غير معروف وتكشف ما هو مجهول فى تاريخنا المعاصر. لا أود أن أذكر أسماء دون غيرها والقائمة الكاملة تستعصى على النشر فى مساحة ضيقة.

فهى تضم أجيالا تتالت من القيادات الصحفية والإعلامية ورؤساء التحرير ومجالس الإدارات.

الأغلبية الساحقة من الذين يتولون المسئولية الآن فى المؤسسات القومية والخاصة اكتسبوا خبراتهم السياسية من مدرسته وخرجوا من عباءته.

عطاء متواصل من مصدر واحد فقير لكنه مخلص لما يعتقده محدودا لكنه قوى بفكرته.

المسألة هنا ليست أسماء تصعد أو تزاح لسبب أو آخر بقدر ما هى هيمنة شبه كاملة تعود إلى أسباب فى بنية التربية السياسية، ولأسباب كثيرة سادت الفكرة الناصرية الدفعات الأولى من كلية الإعلام بعد تأسيسها مطلع السبعينيات إلى درجة أن «السادات» فكر للحظة أن يلغيها.

والقائمة تضم قيادات تتصدر الآن أهم النقابات المهنية مثل «الصحفيين» و«المحامين» والأثر واصل إلى نقابات مهنية أخرى كـ«المهندسين»، وأبرز قيادات العمل الحقوقى وبعض أشهر القضاة والمحامين، وبعض أهم الخبراء الأكاديميين والمثقفين والشعراء والأدباء والفنانين وجدوا فيه مدرستهم الأولى.

لو نظرت فى أصول التربية السياسية لأعداد لا يستهان بها من النخب المصرية فإن الكعب الأعلى لهذا النادى قبل غيره.

وهذه مسألة قد تبدو مثيرة للتساؤلات لكنها حقيقية إلى أبعد حد.

راجع الأسماء بنفسك لتعرف أن مدارس الكادرات الحقيقية هى أكثرها إلهاما بأن هناك شيئا يستحق الحياة من أجله وبذل أية تضحيات فى سبيله.

هذا هو المعنى الذى يستحق اليوم الاحتفاء به.

على قدر آخر ساهمت الحركة الماركسية الطلابية فى إمداد الحياة العامة بشعراء وسينمائيين وخبراء ومثقفين على درجة عالية من الكفاءة والموهبة وكانت بدورها مدرسة للكادر لا يستهان بها.

حاول «السادات» فى السبعينيات إجهاض حركة اليسار بجناحيه الناصرى والماركسى واستخدم الجماعات الإسلامية فى فض التجمعات السياسية والحفلات الفنية بالمدى والجنازير لكن الفكرة أقوى من العنف والحلم أبقى من السلطة.

من جيل الآباء فى السبعينيات إلى جيل الأبناء فى «يناير» فإن الدرس واحد: لا أحد بوسعه أن يصادر حركة المستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved