في فقه «الحِوَار المجتمعي» .. مقالٌ في اللغة

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 17 مارس 2019 - 11:11 م بتوقيت القاهرة

 وإذ أحسب أننا نقصد «بالحِوار» المدعو إليه، ذلك المقصود في المعاجم بكسر الحاء (لا بفتحها)، فلعلنا نحتاج إلى أن نفصل المعنى والمقصد.

ـــــــــــــــــــــــــ

لا يكون الحِوَار حِوَارا بالتعريف لو لجأ البعض استباقا إلى تخوين الطرف الآخر، أو إلى قطع الطريق عليه بادعاء «شيطاني» بأن أولي الأمر يعرفون وحدهم ما فيه صالح البلاد والعباد

تفضل السيد رئيس البرلمان (والذي تصادف أنه كان عضوا «بلجنة العشرة» الاستشارية/ القانونية التي اقترحت مواد الدستور الذي يريدون تعديله) فدعا المصريين إلى «حوار مجتمعي» حول «مقترحات» تقدم بها بعض النواب لتعديل جوهري لمواد في دستور البلاد، وهو الدستور الذي كان قد وافق عليه المصريون بأغلبية تجاوزت الـ ٩٨٪، واحتفت به مانشتات الصحف «الرسمية»، احتفاءً، لم نعرفه منذ استفتاءات الستينيات من القرن الماضي.

وتفصيلا للدعوة المشار إليها للسيد رئيس البرلمان، والتي تحتمها أهمية المواد المقترح تعديلها، تواترت الأخبار (البرلمانية) بأن «الحِوَار» حول التعديلات الدستورية «المقترحة» قانونا، «والمقررة» فعليا يبدأ هذا الأسبوع. بعضهم قال السبت (بهاء الدين أبوشقة في «الشروق» ١٤ مارس) والآخرون قالوا الاثنين (أحمد حلمي الشريف في «مصراوي» ١٢ مارس).

وبغض النظر عن ما نعرفه مقدما، مما لا داعي للإشارة إليه هنا، فربما يظل في باب الرياضة الذهنية (وبعضها واجب) البحث عن معنى المصطلح: «الحِوَار المجتمعي» في معاجم اللغة، وكتب السياسة، خاصة وقد اختلطت المصطلحات علينا، (وتلونت) بداية من حقوق الإنسان، والأمن القومي، والسلم الاجتماعي، واستقلال القضاء…، وليس نهاية بما نقصده (أو يقصدونه) بمصطلح «الحِوَار المجتمعي»

***

تَعرف العربية «الحِوَارُ» بكسر الحاء وفتح الواو بمعنى «النِقَاشُ» والتباحث في الأمر: « قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ» الكهف ٣٧ (انظر: القاموس المحيط، والغني، والمعجم الوسيط).

ولكنها تَعرف أيضا؛ في أصل الكلمة «الحَوْرُ» بفتح الحاء وتسكين الواو. وهي في «لسان العرب» تعني «الرجوع عن الشيء … والنقصان بعد الزيادة». وفي الحديث: «نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ»؛ معناه من النقصان بعد الزيادة، وقيل: معناه من فساد أُمورنا بعد صلاحها، وأَصله من نقض العمامة بعد لفها، مأْخوذ من كَوْرِ العمامة إِذا انقض لَيُها وبعضه يقرب من بعض، وكذلك الحُورُ، بالضم. ويقول العرب: «طحَنتِ الطاحنةُ فما أَحارَتْ شيئا، أى ما ردَتْ شيئا من الدقيق» (انظر لسان العرب، والصحاح في اللغة).

وإذ أحسب أننا نقصد «بالحِوار» المدعو إليه، ذلك المقصود في المعاجم بكسر الحاء (لا بفتحها)، فلعلنا نحتاج إلى أن نفصل المعنى والمقصد.

***

بداية، ولعله من نافلة القول (أو هكذا كنا نحسب) أن الحِوارَ لا يكون «حِوارًا»، بالتعريف حين يعتقد أحدهم أنه يملك «الحقيقة المطلقة» ناسيا ما عرفناه في مأثوراتنا من أن «كلٌ يؤخذ منه ويُرد، إلا صاحب هذا المقام». أو حين يغفل عن ما علمنا إياه الشافعي من أن «رأيي وإن كنت أحسبه صوابا، إلا أنه يحتمل الخطأ. ورأي غيري وإن كنت أظنه خطأ إلا أنه يحتمل الصواب». أو كان بحاجة إلى من يذكره أن الإمام، على قدره كان يقطع الفيافي والقفار ليلتقي بهذا أو ذاك من أهل العلم ليسمع منهم قائلا: «ما ناقشت أحدا وأحببت أن يخطئ، وما ناقشت أحدا إلا على نصيحة، وما ناقشت أحدا بنية الغلبة، وما ناقشت أحدا إلا ودعوت الله أن يظهر الحق سواء على لسانه أو لساني».

***

لا يكون الحِوَارُ حِوَارا عندما يشيع الخوف.. فيخشى أصحاب الرأي التعبير عن آرائهم؛ قولا، أو كتابة، أو حتى تحت قبة البرلمان

لا يكون الحِوَار حِوَارا بالتعريف لو لجأ البعض استباقا إلى تخوين الطرف الآخر، أو إلى قطع الطريق عليه بادعاء «شيطاني» بأن أولي الأمر يعرفون وحدهم ما فيه صالح البلاد والعباد.

كما لا يكون الحِوَارُ حِوَارا عندما يشيع الخوف. (وهناك مائة سبب للخوف) فيخشى أصحاب الرأي التعبير عن آرائهم خشية العواقب التي بتنا نعرف. وأبسطها بلاغ من محامٍ مجهول (أو مدفوع) وما يترتب على ذلك من آثار.

لا يكون الحِوَارُ حِوَارا حين يضطر صاحب هذا الرأي أو ذاك (وجلهم أصحاب أقلام لها قيمتها) أن ينشر ما كتبه في مكان غير جريدته، أو على صفحته (الخاصة) على مواقع التواصل الاجتماعي. والأمثلة كثيرة لأعضاء في لجنة الخمسين التي كتبت الدستور، ولرجال قانون وقضاة أجلاء، ووزراء (في وزارة ٣٠ يونيو)، وكتاب كبار، ورؤساء تحرير ومجالس إدارة (سابقين) لصحف «قومية»، وأصحاب رأي مشهود لهم بأنهم لم يبخلوا يوما برأيهم فيما يخص هذا البلد ومستقبله.

لن يكون هذا الحِوَار حِوَارا «مجتمعيا»، إلا إذا سمعنا أن «مؤسسة حماية الدستور» المشهرة قانونا قد دعت، أو تمكنت من الدعوة إلى حِوَارات «حقيقية» حول مقترحات «تمس جوهر» مبادئ الدستور الذي لا وظيفة لمؤسستهم (حسب البيان التأسيسي «الرسمي» لإشهارها) غير حمايته.

لا يكون الحِوَارُ «حقيقيا» حسب ما تقضي به قواعد اللغة؛ معنى ومبنى إلا إذا شهدنا في برامج التلفزيون الحِوَارية المسائية (الـ Talk Show) ما كنا نشهده في «الأيام الخوالي» من حِوَارات حقيقية تتسم بالحرية والحيوية، ولا تعرف «قائمة معتمدة» للضيوف، ولا أخرى «سوداء»؛ رسمية كانت، أو متعارف عليها.

لن يكون الحِوَارُ «حقيقيا» إلا عندما يكون لدينا وسائل إعلام (وقد كان لدينا ذات يوم) تفعل مثل ما تفعله الـ BBC المملوكة للدولة في تغطيتها للنقاشات (والخلافات) حول موضوع «البريكست»، أو ما فعلته France24 المملوكة للدولة أيضا حين لم تتردد في إذاعة خبر إدانة مجلس حقوق الإنسان الأممي لممارسات الأجهزة الأمنية الفرنسية حيال متظاهرى السترات الصفراء. في جميع نشراتها وتقاريرها الإخبارية على مدار اليوم.

حدث هذا في دول تقدمت لأنها تعرف أن «الدولة»؛ تعريفا ليست هي الحاكم أو الحكومة أو النظام أو أجهزته

حدث هذا في دول تقدمت لأنها تعرف أن «الدولة؛ تعريفا ليست هي الحاكم أو الحكومة أو النظام أو أجهزته» فلم يخش العاملون في وسائل الإعلام تلك «المملوكة للدولة» أن يخرج من يتهمهم بأنهم يعملون «ضد الدولة» لأنهم، لاعتبارات «المهنية» سمحوا بنشر هذا الخبر، أو بتغطية «مهنية / مستقلة» لذاك .

كما لا يكون الحِوَارُ حِوَارا «مجتمعيا» بالتعريف إلا إذا كان مثل ما شهدناه لأشهر في مجلس العموم البريطاني حول «البريكست» والذي فشلت فيه رئيسة الوزراء ثلاث مرات في تمرير اقتراحها رغم زعامتها لحزب الأغلبية. رأينا تحت قبة مجلس الديمقراطية الأعرق كيف أن الانتماء إلى الوطن ومصلحة البلاد (ومستقبلها) غلب الانتماء الحزبي عند النواب، والذين لم يكن هناك من يصدر إليهم التعليمات (أو التهديدات) واضحة أو مستترة. فلم تحكمهم غير رؤيتهم لمصلحة البلاد ومستقبل أبنائها، وإدراكهم لحقيقة أن ديمقراطية الاستفتاء لا تصححها غير ديمقراطية البرلمان. وأن «أخطاء الديمقراطية لا تصححها غير مزيد من الديمقراطية». شاهدنا تحت القبة جلسات ماراثونية لحوار «حقيقي» لا تفسده منصة، ولا قرار مسبق، ولا إحساس باللا جدوى.

***

لا يكون الحِوارُ حوارا إذا كان على طريقة عرفناها في عهد أخشى أن ثقافته عادت وإن لم تعد شخوصه. تقول القصة إن السيد صفوت الشريف؛ رجل المخابرات المخضرم، والأمين العام للهيئة الحاكمة (كانت أيامها قد اتخذت شكل «الحزب») كان قد دعا في أوائل عام ٢٠٠٥ إلى «حوار وطني» بين القوى السياسية، بهدف إجراء «إصلاح حقيقي للحياة السياسية والاجتماعية في البلاد». وربما كان بيننا من مازال يذكر كيف كان «الحوار»، ومن هم أطرافه، وكيف تمخض عن مانشيت للأهرام (١ فبراير ٢٠٠٥) يقول: «رؤساء الأحزاب يشيدون بمبادرة مبارك لتحقيق الإصلاح» (!)

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فلعل هناك من استدعت ذاكرته (في تلك الأيام «المباركة») تصريح صفوت الشريف ذاته في يناير ٢٠٠٧ عن «الحوار» حول التعديلات الدستورية التي تضمنت «تفصيل» المادة ٧٦ على مقاس نجل الرئيس، وهو الأمر الذي نعرف أنه لم يكن محل قبول لا من الناس، ولا من جهات نعرف وزنها داخل الدولة. يومها قال الشريف نصا: «أن التعديلات الدستورية المطروحة جاءت كثمرة حوار كبير عاشه المجتمع» (المصري اليوم ــ ٥ يناير ٢٠٠٧).

لا يكون الحِوارُ حوارا إذا كان على طريقة عرفناها في عهد أخشى أن ثقافته عادت وإن لم تعد شخوصه

أعرف أن ثقافة الحكم التي اعتدناها لعقود، لا تعرف «حِوَارا حقيقيا»، ولا تحب أن تسمع ما يزعج، أو بالأحرى «ينبه»، وإلا لكان هناك من استمع «بصدر رحب، وعقل منفتح» لمحاضرة الأستاذ محمد حسنين هيكل (أكتوبر ٢٠٠٢) عن حتمية الشرعية «الدستورية» التي تأخرت. يومها للأسف، اكتفى صاحبُ القرار (والسلطة) بالحل السهل: إيقاف بث المحاضرة، ومعاقبة القناة التي بثتها وصاحبها.. وكل ذوي الشأن مازالوا يعيشون بيننا، فاسألوهم.

***

خلاصة القول أن «الحِوَارَ»؛ لغة يعني؛ تعريفا أن يكون هناك طرفان أو أكثر، يحمل كل منهما أو منهم وجهة نظر «مختلفة».

أما «المجتمعي»، فهو نسبة إلى المجتمع، واللفظة؛ لغة تعني عموم الناس لا هؤلاء المنتقين ليقولوا كلاما على هوى هذا أو ذاك من أصحاب القرار (المسبق). غني عن الذكر أن لا فائدة ترجى من حوار أيا ما كان في حال وجود مثل هذا «القرار».

أما أولئك «السلطويون»؛ من جناة أو ضحايا «ثقافةٍ بطريركيةٍ أبوية» حاكمة، والذين يتصورون أن فى إتاحة الحوار «المفتوح» تطاولا لا يليق، وأنه لا يجوز ابتداء محاججة أولئك العارفين بمصلحتنا وبضرورات أمننا القومي، فلعلهم يتذكرون أن الخباب بن المنذر راجع رسول الله ﷺ: « أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ … أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ والمَشُوْرَة» في القصة المشهورة. ولعلهم يقرأون أن إبراهيم عليه السلام لم يتردد في أن يطلب البرهان من ربه (سبحانه): «… قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِيَطْمَئِنَ قَلْبِى» البقرة ٢٦٠

……………..

ثم يبقى أن من محاسن «الصدف»، أن من تقدم «بمقترحات» التعديل (أكرر: «مقترحات») هم نفر من النواب المحترمين، وليس السيد الرئيس، والذي يمنحه الدستور أيضا حق الاقتراح (المادة ٢٢٦). ولعل في تلك «المصادفة» ما يرفع الحرج عن البعض. أقول: «لعل»، والتي تقول معاجم اللغة، وكتب النحو أنها تفيد «التمني» لا أكثر.

***

وبعد

فلأسباب نعرفها جميعا، قد يمضي قطار التعديلات إلى محطته الأخيرة التي يقصدها واضعوها. فهكذا جرى مع كل السوابق التي نعرف في سنواتنا الخمس الأخيرة، وسواء جرى حوار «مجتمعي» حقيقي (أو غير ذلك) فلا جدال في أننا جميعا نعرف ما هو الموقف الحقيقي «للمجتمع»... اسألوا مجتمعاتكم.

……………..

وقانا الله شر «لحن القول»، وتحريف المعنى، والإساءة للمصطلح.. واللغة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

لماذا لا يحبون الدستور؟

أسئلة «القَسَم» .. والنصوص .. وعام جديد

نصوص .. وأخبار 

حديث «النوايا»

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرسوم والصور:

- Cartoon: Arcadio Esquivel

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved