العطاءون ليسوا الحل

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 16 ديسمبر 2015 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

نظرت دائما بإعجاب وفضول إلى راهب الديانة البوذية. قابلته بكثرة فى مرتفعات كاندى بسريلانكا وجبال سيملا فى الهيمالايا وفى سهول شمال ثايلاند وكمبوديا. أعجبتنى بساطته المتناهية: رأس حليق ورداء أصفر وصندل جلدى وفى يده وعاء أشبه بالبوتقة يأكل منه ما يضعه فيه عامة الناس من طعام. وجه يتسم بالسماحة والصدق والتسامح، كله فى تواضع شديد دربته عليه عقول حكيمة، دربته أيضا على التحكم فى الشهوات، وبخاصة شهوة الجنس، وهى احدى الشهوات التى نجحت الديانة الهندوسية فى ترويضها بإضفاء درجة من القدسية عليها. الرسالة الصامتة لهذا الراهب تشجيع الناس على العطاء. هو نفسه لا يمد يده ولا يسأل ولا يطلب.

***

تنافست وكالات الأنباء خلال الأسابيع الأخيرة على التوسع فى نشر أخبار عن تنازل عدد متزايد من الأثرياء فى دول الغرب عن معظم، إن لم يكن كل ثرواتهم. سمعنا عن قرار بيل جيتس صاحب ميكروسوفت وزوجته بتوجيه جل ثروتهما إلى عمل الخير، ثم جاء صاحب فيسبوك وزوجته بقرار لا يختلف فى الجوهر عما قررته عائلة جيتس وعائلات أخرى. انتبهوا فجأة إلى أنهم ليسوا بحاجة إلى هذه الأرقام والأكوام الهائلة من الدولارات، وأن آخرين فى هذا العالم يستحقون الاستفادة بها.

***

«العطاءون» أنواع تختلف باختلاف الهدف من العطاء. هناك من يعطى ولا يريد مقابلا بل وقد لا يريد أن تذاع تفاصيل ما أعطى ولمن أعطى. هذا النوع انشغل به فلاسفة ومفكرون عديدون على مر التاريخ، أغلبهم لم يفهم، وكثيرون بيننا مازالوا لا يفهمون، سر القوة الذاتية التى تدفع إلى تفضيل الآخر، أو الآخرين، على أنفسهم. ما السر وراء طفلين ولدا لنفس الأم وفى نفس الظروف، أحدهما غزير العطاء يفضل أن يلعب مختلف الأطفال بلعبه ويستعملوا أشياءه مستمتعا وراضيا وسعيدا. شقيقه على الناحية الأخرى يمسك بأشيائه ويحيطها بذراعيه ويضعها فى أحضانه ويرفض أن يلمسها أطفال آخرون.

هناك أيضا من يعطى ولكن بمقابل. أحيانا يكون المقابل معلنا وصريحا وأحيانا متضمنا. هؤلاء الذين يعطون قليلا أو كثيرا لجمعيات البر والإحسان بعضهم ينتظر ثوابا فى الآخرة، أو مكانة فى المجتمع الذى يعيش فيه، سواء مجتمع الزقاق أو مجتمع القرية والحى أو المجتمع الدولى. بمعنى آخر، هناك من يعطى وفى ذهنه أنه سيحصل يوما ما فى مكان ما على مقابل مادى أو مزايا معنوية.

***

تركب الطائرة، أو تدخل إلى مطعم، فترى صندوقا زجاجيا كبيرا بداخله عملات ورقية ومعدنية من جميع أنحاء العالم، وعلى واجهته ورقة تستحث الراكب ليلقى بما تبقى فى جيبه من «فكة» فى نهاية رحلته. كثيرون فكروا مرتين، البعض تساءل عن مصير تبرعه وإن كان سيجد طريقه إلى محتاج. هذا الشك صار طبعا من طبائع العصر الفاسد الذى نعيش فيه .بعض آخر يسأل وما جدوى القليل الذى أتبرع به؟ الإجابة سمعناها ايام طفولتنا: نعم «الفكة تجمع».

***

الموضوع الذى أثار الرغبة فى كتابة هذه السطور، هو غريزة «الإيثار»، أى تفضيل الآخرين على النفس أسوة بهذا الراهب البوذى والذين آلوا على أنفسهم زرع السعادة فى نفوس «الآخرين». هذا النوع لا ينتظر مقابلا، سواء فى شكل ثواب فى الآخرة، أو اعتراف اجتماعى فى الحاضرة. هؤلاء لا يظهرون فى الصور ولا يتحدثون إلى الصحفيين ويبتعدون عن كاميرات التليفزيون. هم وأمثالهم كثيرون فى حياتنا اليومية لا يشاطروننا ما يفكرون فيه ولماذا هم فاعلون ما يفعلون. يسعون طول اليوم والليل لإرضاء الآخرين، الغرباء منهم قبل الأقرباء. يخصمون من رفاهيتهم وراحتهم ما يسعدون به غيرهم. أعرف منهم أفرادا ليسوا قليلى العدد. أعرف بالتأكيد وبالتجربة والعلاقة المباشرة أنهم سعداء.

أراهم فأتخيل على الفور مجتمعات النمل والنحل. كائنات عاشت ملايين السنين رغم ضآلة أحجام أفرادها. عاشت بفضل غريزة «الإيثار». كل فرد يعطى ولا ينتظر المقابل ولا يمارس شهوة المنافسة. عاشت مدة أطول من حيوات أنواع أخرى أفرادها ضخام الجثة وبالغى الأنانية. الديناصورات اندثرت وبقى النمل والنحل شاهدين على قوة الايثار.

***

لماذا يزداد كل يوم عدد «العطائين»؟ سؤال صار يتردد فى صحف عديدة فى الغرب. أغلب المعلقين يعتبر الفجوة المتزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء سببا رئيسيا. كثير من الناس لم يعد يتحمل منظر الفقر والفقراء. يقول احد المعلقين انه ناقش مع مفكر كبير فى أحد مراكز البحث فيما يمكن ان يكون رأى كارل ماركس فى هذه الظاهرة، ظاهرة الزيادة الكبيرة فى عدد الأغنياء الذين يهبون ثرواتهم للفقراء، أجاب المفكر بالقول إن ماركس ما كان ليرحب بالظاهرة، ففى رأيه، وأقصد رأى ماركس، أنها لا يمكن أن تحل مشكلة النقص فى عدالة التوزيع. التوزيع العادل يتحقق فقط من خلال عمل مؤسسى ودولة ملتزمة وضمير حى فى مجتمع حر.
* * *
حديث الضمير يطول. حديث يبدأ عند الدولة. مئات أو ألوف المصريين الذين يفضلون الآخرين على أنفسهم سوف يستمرون فى العطاء بسخاء، ولكنهم لن يحلوا «المسألة المصرية». المسألة المصرية كانت وستبقى مسئولية دولة ونخب حاكمة وموظفين كبار ومشرعى قوانين. هؤلاء هم المكلفون أساسا بصنع الضمير. لو أن كل واحد من هؤلاء الكبار تلقى هدية ثمينة من دولة أجنبية سلمها فور عودته إلى الدولة، كما يفعل كبار المسئولين فى الولايات المتحدة وبريطانيا، لكان هذا «الإيثار» اللبنة الأولى فى صنع الضمير. ولو أن الدولة طلبت رسميا، وبالحزم الواجب، من جميع السفارات الأجنبية فى القاهرة الامتناع عن منح المواطنين المصريين من أى رتبة أو درجة أو مكانة مبالغ مادية أو ثروات عينية واعتبرت هذه المنح والهدايا خرقا للسيادة المصرية، أو طالبتها بأن توجه المبالغ التى يراد وصولها إلى طبقة الاعلاميين والصحفيين لصندوق نقابة الصحفيين وصناديق تقاعد الاعلاميين، أو على الأقل تبلغ بها مصلحة الضرائب والجهة الرسمية التابع لها المتلقى، لو تحقق هذا الأمر بأى من هذه السبل لكان بمثابة اللبنة الثانية فى هيكل الضمير الوطنى المصرى المزمع تشييده.

***

دولة لها قيمتها وتعتز بكرامتها لن تعتمد على الكرم غير المنظم وغير المنضبط أو على العطاء المزاجى لسد ثغرة أو أخرى فى منظومة العدالة الاجتماعية وتضييق الفجوة بين الثراء والفقر فى مصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved