الجامعة والربيع

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 16 أكتوبر 2014 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

لا أصدق أن أحدا عاقلا لايزال يعتقد أن الربيع العربى حدث عادى أو انحراف بسيط فى مسيرة التطور فى المنطقة العربية. سمعت أن البعض يظهر بين الحين والآخر على شاشات الفضائيات ليؤكد أن لا شىء ذا أهمية تغير فى مصر أو خارجها.

يزعم أن ما تغير سطحى وتافه وما هى إلا جهود بسيطة وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. بمعنى آخر، تعتقد هذه الجماعة الإعلامية، أن ما تغير سيعود إلى ما كان عليه قبل نشوب ثورات هذا الربيع. لا أصدق أنه يوجد أفراد منشغلون بهموم أمتهم وأبنائهم لا يشعرون بحجم وعمق التغيرات التى مست معظم أنحاء العالم العربى، وها هى الآن تؤثر فى البلاد الاسكندنافية ودول أخرى فى أوروبا الغربية، وأثرت بجلاء وعمق فى تركيا وإيران.

•••

لا أبالغ فى القول بأن معظم التغير الذى أحدثته ثورات الربيع العربى لم يقع فى الحال ولكنه وقع فى مراحل لاحقة وبخاصة فى المرحلة الراهنة. ليست قليلة، أو بسيطة، تطورات الشهرين الأخيرين وبخاصة تداعيات تشكيل حلف الخمسين أو أكثر لمحاربة تنظيم متطرف لم تتجاوز التقديرات عن عدد أعضائه فى أى تحليل نشر عنه العشرين إلى الأربعين ألفا، وهو عدد يقل كثيرا عن عدد المتفرجين اللازم لشغل مقاعد جناح واحد فى استاد لكرة القدم متوسط السعة. أصداء التنظيم والحلف المناهض له ترددت فى كل مكان من العالم، من استراليا فى أقصى جنوب الشرق إلى فنزويلا وبوليفيا فى أقصى الغرب. خوف وقلق لا يبررهما بضع صور وأفلام بعضها لعمليات ذبح رهائن وأخرى لمقابر جماعية، ولا تبررهما بالتأكيد هذه الحملة الإعلامية التى رافقت صعود هذا التنظيم وتألقه فى الفضائيات.

داعش بحد ذاته ليس الدليل الأقوى على مدى التغيير نتيجة ثورات الربيع العربى. تكفى نظرة هادئة، ولكن ثاقبة، إلى خريطة متعددة التخصصات للعالم العربى، لنتعرف على هذا المدى. تكشف هذه النظرة الهادئة عن سباق محموم بين واقع يتآكل وواقع جديد ينشأ.

•••

ديموغرافيا، انتقلت أعداد غفيرة من السكان فى خلال العامين الأخيرين بأكثر مما انتقلوا فى قرون وفى أقاليم عديدة. هاجر سوريون من العرب والأكراد، إلى دول اسكندنافية بأعداد كافية لتحدث تغييرا ملموسا فى السياسات السكانية لهذه الدول. وخرجت من سوريا أفواج من اللاجئين كافية وحدها لتغيير الطبيعة الديموغرافية لدول مثل لبنان والأردن أو كافية لإثارة أزمة سياسية حقيقية كما هو حادث فى تركيا، ومعضلة إنسانية وعسكرية لحلف الأطلسى. أما الداخل السورى فحدث عنه ولا حرج، حدث عن طائفة علوية انخفض عدد الشبان فيها إلى مستويات تهدد مستقبل الطائفة وبالتالى مستقبل السياسة والمجتمع والجيش فى سوريا. حدث أيضا عن نزوح داخلى دمر العديد من المعادلات والمسلمات الديموغرافية فى سوريا.

•••

اقتصاديا، تضررت الغالبية العظمى من الدول العربية، وبخاصة دول الربيع العربى، بسبب أعمال الفوضى وانسحاب المؤسسات الأمنية وتدخلات قوى خارجية. هذه القوى استفادت من إثارة مزيد من الفوضى لانهاك الثورة والثوار واخضاع إرادة المؤسسات البيروقراطية والسياسية للخارج. كان، ولايزال، واضحا أن هذه الأطراف الخارجية ركزت جهودها للانتفاع من الانحدار الاقتصادى لتحقيق هدفين: ضرب الثورات أو التحكم فيها أو إضعاف فرص نشوبها من جديد. أما الهدف الثانى فهو احتلال مواقع نفوذ داخل المؤسسات الجديدة فى الدول التى حققت درجة أو أخرى من الاستقرار.

•••

سياسيا، لا وجه شبه كبير بين الأوضاع السياسية السابقة على نشوب الثورات والأوضاع السياسية الراهنة فى دول الربيع. ولكن أيضا لا شبه إلا فى الشكل بين الأوضاع فى السابق والراهن فى الدول العربية التى لم تنشب فيها ثورات. ينكرون أن شيئا أساسيا تغير بينما واقع السياسات الخارجية والأمنية فى كل تلك الدول لا يشبه فى كثير أو قليل واقع ما قبل ثورات الربيع. لا أحد يستطيع إقناعنا بأن الدول العربية التى لم تنشب فيها ثورة من ثورات الربيع تعيش الآن وتتصرف كما كانت تعيش وتتصرف قبل أن تموج المنطقة بالثورات وأصدائها.

لا شيء أبلغ فى التعبير عن التغيير الذى لحق بالجغرافيا السياسية للعالم العربى من متابعة تطور السباق على رسم خريطة جديدة للمشرق العربى. كذلك فإنه عند تقدير اهمية التغير الجيوستراتيجى فى المنطقة لا يمكن اغفال خطورة الاوضاع على الحدود فى كل من العراق وسوريا، أو اغفال مساحات الغزو والكر والفر فى كل من اليمن وليبيا. انا شخصيا لا استهين بحيوية فئات عديدة فى لبنان خاصة وكذلك فى مصر والأردن تبحث عن قارئ فنجان يعينها على قراءة المستقبل.

•••

أسأل كما يسأل الكثيرون من المهتمين بالنظام العربى ومنظومة القيم والمبادئ التى حكمت نشأته، لماذا لم يحدث بعد التغيير الملموس فى هياكل النظام مثلما حدث فى أنظمة الحكم فى دول الربيع العربي؟

لم تأت إجابة على السؤال من أى جهة أكاديمية أو مؤسسية، وأجد العذر لكل علماء السياسة والعاملين فى حقل العمل العربى المشترك، فكما أن هناك فى دول الربيع العربى من استمر حتى يومنا هذا ينكر نشوب «ثورة ربيع»، أو يعتبرها حالة فوضوية أو فى أحسن الفروض مؤامرة كونية لمنع نهوض العرب وتوحدهم، هناك أيضا على صعيد العمل العربى المشترك من يستهين بتداعيات ثورات الربيع. يقدم الدليل باستقرار دول أكثر عددا لم تتعرض لهزات وما زالت حكوماتها تحكم، ومازالت صناديقها مستمرة فى تسديد أنصبتها فى موازنات الجامعة، الأمر الذى يعنى فى نظر هذا الفريق أن الجامعة محصنة ضد ثورة تطيح بهياكلها.

يتعامى هؤلاء، كما يتعامى أقرانهم من المسئولين فى دول لم تنشب فيها ثورة ربيع، عن رؤية التغيير الأشمل والجذرى الذى وقع فى جغرافية العالم العربى وديموغرافيته وأنظمة وسياسات الحكم وأمزجة الشعوب وتوازنات طوائفها.

•••

نعيش تداعيات وتوابع الربيع العربى وفصول جديدة منه، وبعضنا ينكر. ولن ينفع الإنكار. كنت أتحدث عن أحوالنا العربية مع سياسى مخضرم فاجأنى بالسؤال: هل تعتقد أن القائمين على أمر الجامعة العربية يصدقون أنهم على رأس مؤسسة تتمتع بأى درجة من درجات الشرعية. لقد فقدت الجامعة العربية ما تبقى من شرعيتها مع نشوب ثورات الربيع العربى. واستطرد قائلا: انظر حولك. لدينا الآن دول فاشلة أعضاء فى الجامعة العربية، أى دول لا تحظى برضاء أو احترام شعوبها والمجتمع الدولى. ولدينا دول قامت فيها بعد الثورات حكومات مازالت منشغلة باستكمال شرعيتها وسط مصاعب جمة وشكوك شعبية لأسباب متنوعة. ولدينا دول اهتزت شرعية أنظمتها الحاكمة حتى الأعماق يوم خرج الملايين الى الشوارع فى دول عربية أخرى يطالبون بعيش وحرية وكرامة وعدالة. هذه الدول لم تستعد بعد استقرارها. ولدينا دول غير واثقة تماما من قدرتها الذاتية على صد غزو عصابات التطرف الدينى والإرهاب السياسى.

•••

عاد يسأل: هل يمكن أن يكون لجامعة إقليمية، هكذا حال معظم أعضائها، أى حق فى شرعية الوجود أو الاستمرار؟.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved