سحرة وعلماء وكهنة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 16 فبراير 2016 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

فى يوم واحد من أيام هذا الأسبوع سمعت ثلاث روايات، لكل رواية من الروايات الثلاث علاقة بالسحر. رواية تحكى مأساة عروس تزوجت منذ شهور قليلة برجل تحبه ويبادلها الحب. سافرت معه فى رحلة شهر عسل تخللتها مصاعب مرضية ليست قليلة، وبعدها فاجأها مرض شديد وفاجأ زوجها اضطراب شديد فى العمل. كلاهما، المرض والاضطراب فى العمل، تدخلا ليفرقا جسديا بين العروسين منذ الأيام الأولى لزواجهما، لفت نظرهما ونظر الأطباء ان حالتها تكاد تكون عنقودية، بمعنى أن ما أن ينتهى العلاج فى مكان إلا ويبدأ الألم فى مكان آخر. عجز الأطباء وجاء دور السحر. تحسنت أحوال الزوجين وحان للافتراق ان ينتهى بعد أن اطمأنا إلى انكشاف سر «عمل معمول» لهما، ومواظبتهما على العلاج الذى أوصى به الساحر الذى كشف السر وأوصى بالعلاج.

الرواية الثانية تحكى عن نادٍ رياضى لجأ إلى نوع من السحر ليساعد فريقه فى التغلب على فريق نادٍ منافس. قيل لى إن اللاعبين لم يعترضوا، وبطبيعة الحال لم يحتج الإداريون والمدربون. لم يأبه أحد لحقيقة أنه بهذا التصرف أثبتت الإدارة أنها لا تثق بقدرات لاعبيها. لم تفاجئنى الرواية بتفاصيلها على عكس الرواية الثالثة التى كان لها عندى وقع الصدمة. قيل لى من شخص عالم ببواطن الأمور وخبايا المال والأسواق إن بعض المتعاملين فى بورصة الأوراق المالية يلجأون إلى «سحرة» للتأثير فى أسعار الأسهم، وأن بعض هؤلاء السحرة حققوا ثروات طائلة.

* * *

أحاديث السحر ليست جديدة على تجارب نشأتى ورحلاتى. بدأت فى سن السابعة أستمع إلى حواديت عن السحر من امرأة ريفية متقدمة فى العمر كانت تزورنا بصفة دورية لتقضى مع ابنتها فى كل زيارة يومين أو ثلاثة. كانت معظم حواديتها تدور حول السحر وفنونه ورعبه. فى ذلك العمر كنت أحرص على التنصت على أحاديث سيدات العائلة والجيران، وكثير منها عن علاقاتهن بالجن وزياراتهن لشخص «مبروك» يفك السحر الأسود ويعيد للأزواج رشدهم أو كفاءتهم أو الاثنين معا.

أذكر أيضا حصة الدين فى المدرسة الابتدائية، حين كان المعلم يقضى معظم وقت الحصة يتحدث عن السحر فى القرآن، وفضائل السحرة. كان لمعلم الدين والريفية العجوز وحفلات الزار وطقوسه الفضل الكبير فى أننى وصلت إلى الهند متقبلا بكل بساطة ممارسات السحر ورواياته، ومتطلعا إلى معرفة المزيد عنه ومكانته فى الثقافة الشعبية للهنود، هندوسا كانوا أم بوذيين أم مسلمين.

***

خلصت من تجربة طويلة مع الثقافتين الهندية والصينية وثقافة شعوب الهنود الحمر فى أمريكا اللاتينية، ومن قبلها ثقافة «المصريين»، إلى أن هناك علاقة قوية تربط بين السحر من ناحية وبين الدين والعلم من ناحية أخرى. قابلت مثقفين وسياسيين ودبلوماسيين من المنتمين لهذه الثقافات «يحترمون» السحر فى أبسط الحالات، أو «يقدسونه» فى أعقدها. قابلت آخرين، فى كل هذه الثقافات جميعا، يخافون السحر ويتجنبون الحديث عنه، خوفا حقيقيا من انتقام كائنات شريرة تعيش بيننا لا نراها أو من غضب كائنات طيبة مفترض أنها تتولى حمايتنا وترعى أرواحنا. عرفت أيضا أن الخلافات والاختلافات داخل مجتمعات «فلاسفة السحر» كثيرة وعميقة. قرأت لأحد هؤلاء الكهنة من المصريين يقارن بين السحر الإسلامى والسحر الهندى أو الصينى فيقول «لتمارس السحر وتعيش فى أرجائه عليك أن تختلى فى خلوة.. حتى يصبح جسدك داخل روحك وليس روحك داخل جسدك، وتصبح «روحانى». ساعتها يذهب إليك الجن ليستفيد من طاقتك.. ويعرض عليك الخدمة.. يتسابقون عليك، ويقصد الجن، هذه هى الطريقة الإسلامية». أما الطريقة البوذية والهندية فهى ناجعة لاستحضار «المردة» والعياذ بالله. الغريب فى الأمر أن هذا الساحر نفسه يقدم الوصفة التى يمكن اتباعها لتحضير هؤلاء المردة. وإيقاع الضرر بالأعداء. وتنص الوصفة على أربعة عشر خطوة. أسهب الرجل فى شرح الطريقة الهندية التى ينتقدها ولم يشرح وصفة استحضار الجن الطيبين حسب الطريقة الإسلامية، باستثناء الكلمات المعدودة عن الاختلاء فى خلوة حتى يصبح جسدك داخل روحك وليس روحك داخل جسدك، فيأتيك الجن ليعرض عليك خدماته.

* * *

يقول مؤرخو السحر والسحرة إن أشهر السحرة فى التاريخ كانوا عباقرة فى العلم والرياضيات. يضربون المثل بعالم من علماء الرياضيات اشتهر باسم Gerbert of Aurillac اشتغل بالسحر واختير بابا للكنيسة الكاثوليكية فى عام ٩٩٩. يضيف المؤرخون أن عددا كبيرا من مؤسسى الجمعية الملكية البريطانية وأعضائها فى القرنين السادس عشر والسابع عشر كانوا من ممارسى السحر وكانوا هم أنفسهم من الناشطين لتأسيس معاهد علمية متقدمة. يأتى فى مقدمة مؤرخى السحر James Frazer الذى أرخ للسحر والسحرة فى موسوعته الشهيرة بعنوان جولدن بو Baugh نشرت قبل الحرب العالمية الأولى. يشهد لهذه الموسوعة تسجيل تفاصيل العلاقة بين ثلاثية السحر والدين والعلم، كل الأديان فى جميع الحضارات والثقافات اهتمت بالسحر. يعتمد السحر، كما يعتمد العلم وفقه الأديان، على مبدأ وجود عناصر غير مرئية بالنسبة للإنسان العادى، عناصر لا يفك شفرتها إلا العلماء والكهنة والسحرة. ويذكر التاريخ أن أقسى المراحل فى مسيرة الإنسانية هى تلك التى وقع فيها التحالف بين أطراف هذه الثلاثية لتعمل معا. اجتمعت مثلا أكثر من مرة على دعوة الإنسان للاعتراف بأنه جاهل ومصاب بالعجز عن فهم أمور عديدة وغير قادر على رؤية كائنات لا يعرف كنهها وسرها إلا الساحر أو العالم أو رجل الدين.

القاعدة التى تنظم عمل الثلاثة ووضعتها فى خدمة السياسة والسياسيين هى القائلة بأن السحر لا يكون سحرا إذا مارسه غير السحرة والحكم لا يكون ناجحا ومهابا إلا إذا بقى التخطيط له وحمايته سرا من الأسرار التى يجب أن تخفى على المواطنين. نعرف الآن أن خبراء الأمن استفادوا من خبرة السحرة وعلماء النفس فى قراءة أفكار الناس والاطلاع على نواياهم. الساحر البارع يقرأ ما يدور فى عقل الآخرين، وكذلك علماء النفس وخبراء الاستخبارات والتجسس.

***

فى النهاية تبقى قارئة الفنجان مثلا أعلى لكل المنقبين فى عقول البشر، ويبقى السحر بكل تنوعاته وأطيافه فاعلا ومتفاعلا مع منابع فى الدين والعلم لا تنضب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved