الأطفال والإرهاب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 15 ديسمبر 2009 - 9:58 ص بتوقيت القاهرة

 تسربت إلى صحيفة التايمز اللندنية مذكرة وزعها أحد ضباط الشرطة فى منطقة ويست ميدلاند بإنجلترا على أهالى المنطقة، جاء فيها بالنص ما يلى: «يجب مراقبة الأطفال جيدا لمعرفة إن كان أطفال المنطقة يتعرضون لعمليات غسل مخ على أيدى متشددين إسلاميين، كما يجب إبلاغنا على الفور إن كانت لديكم شكوك عن أشخاص تطرفوا أو قابلين للتطرف. لدينا أدلة معينة تثبت أن التطرف يمكن أن يبدأ فى سن الرابعة..». أطفال إرهابيون؟!. لعلها آخر صيحة فى فنون الحملة ضد المسلمين، أو لعلها مزحة من فرد ينتسب إلى أمة اشتهرت بالتعليقات الساخرة. وأظن أنها فى الغالب أقرب إلى أن تكون مزحة بوليسية ثقيلة تعتمد فى سخريتها على تناقض الكلمة داخل العبارة الواحدة: «طفل إرهابى».

تذكرت فور قراءة النبأ فى صحيفة التايمز عدد الخميس الماضى يوميات كان يكتبها رجل دفعته الظروف ليتولى تربية طفلين والتفرغ تماما لهذه المهمة. أذكر أنه فى أكثر من موقع فى يومياته وصف الطفلين بالإرهابيين لقدرتهما الفائقة على فرض إرادتيهما عليه والاستيلاء على كل وقته، ولكن أيضا لكفاءتهما فى اختيار واستخدام أساليب قمع وتخويف ليحصلا على ما يريدان.

======

سمعت أمهات لأطفال فى سن مبكرة يشتكين التعب أو الضجر، ولكنى لم أسمع واحدة منهن تتهم أطفالها بممارسة الإرهاب ضدها، على عكس ما سمعته من الآباء الذين ساقتهم حظوظهم أو ظروفهم إلى لعب دور الأمومة فى حال غابت الأم أو ألمت بها وعكة. يقول صاحبنا فى يومياته إنه بعد فترة من ممارسة دور رعاية الطفلين شعر بأن فهمه صار أبطأ، بل وخطر على باله أكثر من مرة أنه ربما صار غبيا. يصف تفكيره بأنه تبلد بلادة المقص الذى يقص به مع الطفلين الأوراق الملونة اللامعة التى يتدربون باللعب بها على صنع الأشكال وتصنيف الألوان.

قرأت، وسمعته من غيره من الذين فى مثل حاله، أنه وجد نفسه بعد شهور من التفانى فى رعاية الطفلين، يخجل من الجلوس مع الكبار ويتفادى التحدث معهم. اكتشف أنه يردد كلمات ويقوم بحركات ويصدر أصواتا لا يمكن أن يرددها أو يقوم بها أو تصدر عن رجل وقور فى اجتماع لا يحضره إلا الكبار. نجح الطفلان فى إجباره على استخدام لغة تخاطب خاصة بهم، تماما كما نجحا فى تغيير كثير من معالم شخصيته. اكتشف أنه يكذب. إذا سئل عن طفليه أثنى عليهما وأطنب فى سرد ما ليس فيهما من خصال حميدة وذكاء لامع وهدوء وابتسامات ساحرة، وإذا سئل عن شعوره عبر عن سعادة لم يتمتع بمثلها من قبل حتى أنه يفزع فى منتصف الليل إذا خطرت على باله أو تسربت إلى أحلامه فكرة أن الطفلين كبرا ولم يعودا فى حاجة لجليس مقيم ومتفرغ لهما.

يقول صاحبنا فى يومياته إنه لم يعد لديه ما يقوله فى صحبة الكبار. كان يعمل كخبير فى العلاقات الدولية، يحاضر فيها ويكتب عنها قبل أن يصبح خبيرا فى الحفاضات. درس منشأها وتطورها وتوصل إلى نتائج مهمة، منها مثلا أن اختراع الحفاضة الحديثة المزودة بأرقى تقنيات الامتصاص السريع والتجفيف التلقائى أهم وأكثر فائدة للمجتمع من اختراع المحمول، بدليل أنه شخصيا استهلك من الحفاضات فى عام واحد ولطفل واحد ما تزيد قيمته على قيمة المحمول الذى لم يعد يجد الوقت ولا الحاجة لاستعماله. حملت إليه الأنباء أن واشنطن تحاول إقناع حكومة الصين بأن يشكلا معا «جماعة الاثنين»، أى ج 2، ليتوليا معا قيادة النظام الدولى. كتب يقول إنه ما أن سمع النبأ إلا ووجد نفسه يقهقه بصوت عال وهو ينظر إلى طفليه ويسأل نفسه ببلاهة فائقة إن كان يمكن أن توجد علاقة بين المفاوضات الجارية على قمة النظام الدولى والحفاضات التى حان موعد تغييرها. ما علاقة الطفل المبتل وغير العابئ بشىء إلا ربما التخلص من حفاضة غير نظيفة بطموحات الصين وإمبريالية الولايات المتحدة. يبدو الطفل غير مكترث، مع أنه فى حقيقة الأمر متربص، ينتظر اللحظة التى يغيب فيها الأب أو يشرد ذهنه. ففى هذه اللحظة يستطيع هذا الطفل الهادئ والناعم أن يرتكب عملا إرهابيا يحيل بقية يوم أبيه إلى جهنم. يكفى أن يتسلل ليضع إصبعه فى مقبس الكهرباء أو يشد مفرش المائدة فيسقط معه إبريق الشاى الساخن، والأدهى لو سقط معه سكين وشوكة. إنها اللحظة التى لا نوم بعدها للأب المسكين ولا شرود ولا قراءة، وإنما تفرغ كامل لإصلاح ما أفسدته لحظة شرد فيها أو غلبه النعاس.

تحكى اليوميات فى أكثر من موقع عن لحظة امتدت فيها يد أحد الطفلين إلى شىء ما تصادف وجوده على أرض الغرفة ووضعه فى فمه فلم يعجبه مذاقه وبدأ يصرخ فتدحرج الشىء الذى فى فمه إلى حلقه وانسدت ممرات الهواء واكتسى الوجه بلون أزرق وجحظت العينان وساد الذعر والفزع. يسأل كاتب اليوميات: ألا ينطبق على هذه اللحظة تعبير اللحظة الإرهابية وعلى مرتكب الفعل تعبير الإرهابى وعلى الفعل نفسه تعبير العمل الإرهابى؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved