نور الشريف وجيله

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 15 أغسطس 2015 - 10:40 ص بتوقيت القاهرة

تزامنت بداياته الباكرة مع هزيمة يونيو.

كجيله بدت الصدمة مروعة، فالأحلام الكبرى تكاد أن تكون قد سقطت من حالق.

جسدت بعض أعماله التجربة الوجدانية لجيله أكثر من أية رواية تاريخية.

تماهى الممثل مع الدور والخيال مع الاعتقاد لدرجة أنك لا تعرف بالضبط أين يتوقف الفن وأين تبدأ الحياة.

فهو «عادل» فى المسلسل التليفزيونى الطويل «القاهرة والناس».

كلاهما شاب حول العشرينيات يعانى صدمة الهزيمة بقسوة، ينتسب إلى يوليو ويعلن أنه «ناصرى».

وكلاهما يمتلك حسا نقديا لأوجه الخلل الفادحة فى بنية المجتمع والسلطة وليس مستعدا أن يغض الطرف عنها تحت أى ظرف.

هو من أبناء أكثر الأحياء المصرية شعبية وعراقة «السيدة زينب»، من أسرة بسيطة تكدح بصعوبة فى سبيل رزقها، لم يتنكر لأصوله ولا ادعى غير حقيقته.

شىء من أصالة الحى الشعبى سكن داخله.

ربما اكتسب أفكاره الاجتماعية من عمق معايشته لمعاناة أهله وناسه.

و«عادل» من أبناء «العباسية»، أحد أحياء الطبقة الوسطى فى النصف الثانى من الستينيات، حيث بدأ بث المسلسل أعقاب هزيمة (١٩٦٧) مباشرة.

شىء من تقاليد الطبقة الوسطى فى ذلك الوقت، وقد كانت على قدر كبير من التماسك، حكمت الصياغة الفنية للنقد الاجتماعى الحاد الذى مثله هذا المسلسل.

من الطلة الأولى اخترق الممثل اليافع قلوب مشاهديه، ففى كل بيت شخصية تماثل «عادل» بتمرده وغضبه ونزواته الصغيرة.

الجيل الجديد كله كان غاضبا.

هناك فرق جوهرى على المستوى الوجدانى بين جيلين متعاقبين.

الذين عاشوا الحلم بعضهم لم يستطع أن يتحمل وطأة انكساره الفادح.

كان «صلاح جاهين» مثالا تراجيديا، فقد أصيب باكتئاب حاد.

والذين اكتسبوا وعيهم السياسى بعد الهزيمة رفضوها ونقدوا أسبابها ودفعوا فواتير الدم على جبهات القتال قبل أن يعودوا ليجدوا ثمارها قد ذهبت لغير أصحابها.

إنه ابن هذا الجيل بالضبط.

جيل الهزيمة والغضب والحرب وسرقة النصر العسكرى.

فى عام (١٩٦٨) أعلنت أجيال ما بعد الهزيمة عن حضورها فوق مسارح التاريخ.

تؤيد زعامة «عبدالناصر» وتطلب المشاركة السياسية، تؤكد إرادة القتال وتدعو إلى جبهة داخلية متماسكة لا تفسح مجالا للصوص المال العام والمتسلقين على أكتاف السلطة.

هذه التوجهات تبنتها الشخصية الدرامية التى أداها فى «القاهرة والناس» وتبناها هو نفسه فى الحياة.

فى تلك الأيام البعيدة فوجئ الممثل العشرينى باتصال هاتفى فى منزل أسرته بحى «السيدة زينب» ينقل إليه رسالة من الرئيس أنه يتابعه بإعجاب بالغ، طالبا «أن يحفظ موهبته».

لم يصدق أن الاتصال حقيقى وأن «عبدالناصر» يعنيه ممثل بالكاد يمشى أمتاره الأولى.

أعلن ذلك لمحدثه على الناحية الأخرى من الهاتف.

بعد وقت قصير التقى أمام نادى الزمالك مع «مندوب الرئاسة» الذى أطلعه على هويته الشخصية حتى يصدق الرسالة التى وصلته.

هذه القصة رواها كثيرا على مدى رحلة حياته واستمعت إلى بعض تفاصيلها منه.

يخيل لى أنها أثرت فيه بأكثر مما هو ظاهر وطبيعى.

الشاب الذى عانى قسوة اليتم وجد فى «عبدالناصر» صورة الأب الذى يعنيه مستقبل ابنه.

فى التجارب الإنسانية ما يستقر عميقا يعيش طويلا.

انتقد الممارسات الأمنية على عهد «عبدالناصر» فى فيلم «الكرنك» غير أنه لم يعتبره هجوما عليه ولا انتقاصا من قدره.

بكلماته: «أنا ومخرج الفيلم على بدرخان ناصريان».. «لماذا لا تعتبرون هذا الفيلم نوعا من النقد الذاتى لا تعريضا بزعامته التاريخية؟».

هو ابن جيله بالمعنى الاجتماعى والسياسى العريض.

عانى انكسار الأحلام الكبرى مرتين، الأولى بعد يونيو والثانية بعد أكتوبر.

وقد كان الانكسار الثانى أكثر وجعا.

فالجيل الذى لم تكسره الهزيمة خذلته نتائج تضحياته فى الحرب.

لم يكن مجرد ممثل يحفظ دوره ويؤديه بحرفية فى أعمال تدين الانفتاح الاقتصادى وكامب ديفيد.

كان يعتقد بعمق أن هذه السياسات اعتداء مباشر على أى معنى للمواطنة أو التضحية بالدم فى الحروب الطويلة.

اعتداء مباشر عليه شخصيا.

لم تكن مصادفة أن يكون «أهل القمة» أول شريط سينمائى ينتقد الانفتاح الاقتصادى.

بقدر الموهبة الاستثنائية لـ«نجيب محفوظ» فى التقاط الشخصية الدرامية من قلب التحولات الاجتماعية بدا «زعتر النورى» تمثيلا من لحم ودم لبداية «عصر اللصوص».

بحكم أفكاره الاجتماعية فهو يكره هذه الشخصية لكنه جسدها كأنه قد ولد نشالا ومحتالا.

لم يسقط فى المباشرة الفنية رغم أن أفكاره السياسية مباشرة، فهناك فرق بين الفنان والسياسى.

الفن الحقيقى يكتسب قيمته من قوة الدراما واتساع الرؤية الإنسانية.

بصورة أكثر تأثيرا أدى دور «حسن سلطان» فى «سواق الأتوبيس».

الفيلم وثيقة إدانة سينمائية بلغة رفيعة لا ادعاء فيها لعصر كامل انقلبت فيه موازين القيم وبدت الحالة الأخلاقية والاجتماعية فى انكشاف كامل مازلنا نعانيه حتى الآن.

بالقرب من هذه المنطقة المهجورة عرت أعمال سينمائية أخرى خيانة المثقفين الذين تواطأوا على أية قيمة للعدل الاجتماعى مثل فيلم «البحث عن سيد مرزوق».

وقد كان هو هذا الخائن «يوسف كمال».

بالقدر نفسه أدان ما بعد «عبدالناصر» فى «زمن حاتم زهران».

ضاعت معانى التضحية بالدم على جبهات القتال وانتصر الزاحفون بسطوة المال.

لا يمكن أن تكون مصادفة هذا التزاوج المتواتر فى أعماله بين الانفتاح وكامب ديفيد، فالأول حرم الجيل الذى حارب من أية جوائز اجتماعية والثانية شطبت معنى أية تضحية.

هو ليس مثاليا فى كل ما اتخذه من مواقف سياسية غير أنه كان قادرا على التصويب والتصحيح.

كأى فنان قريب من نبض شعبه أيد ثورة يناير رغم بعض صلات امتدت مع الرئيس الأسبق «حسنى مبارك».

فى عام (١٩٨٢) هو الفنان الوحيد الذى ذهب إلى اجتماع جماهيرى حاشد فى «حدائق القبة» حيث مقر حزب العمل الذى كان يترأسه «إبراهيم شكرى» لإعلان الغضب المصرى على الاجتياح الإسرائيلى للعاصمة اللبنانية بيروت.

قابلته بعض الاحتجاجات بظن أنه يؤيد «كامب ديفيد».

بدأ حديثه: «تسقط كامب ديفيد».

فى هذا اليوم أجمع الحضور على التظاهر باليوم التالى الجمعة من الجامع الأزهر الشريف، وكانت المرة الأولى التى يذهب المصريون إلى الأزهر بعد خطاب «عبدالناصر» الشهير الذى أعلن فيه مقاومة العدوان الثلاثى عام (1956).

أعماله جسدت مواقفه أكثر من تصريحاته، وهذا شأن الفنان الملتزم.

فيلم «كتيبة الإعدام» من تأليف الراحل الكبير «أسامة أنور عكاشة» تعبير مباشر عن زواج الرأسمال الطفيلى مع خيانة دم الشهداء.

وفيلم «ناجى العلى» الذى جلب حملة صحفية غير منصفة وغير أخلاقية فرضت ما يشبه الحصار الكامل على أعماله ترجمة فنية لعمق التزامه بالقضية الفلسطينية.

أحيانا بعض الهزائم أشرف من بعض الانتصارات.

تعبيره الفنى عن وجدان جيله يعكس هذا المعنى تماما.

وأحيانا أخرى قوة الحضور تتأكد فى الغياب.

لعقود طويلة مقبلة سوف تطل أجيال متعاقبة على تراجيديا نور الشريف وجيله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved