الثقب الأسود

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 15 أبريل 2019 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

ما أكثر ما ألحد الناس كفرا بفكرة البعث والخلود فى نعيم الله أو عذابه، وهى فكرة لا تخلو منها الرسائل السماوية وغالبية العقائد الشرقية. العقل البشرى المحدود بالزمان والمكان لا يمكنه أبدا أن يتصور بقاءً سرمديا لا نهاية له، شبابا دائما نضرا، ثمارا لا تنقص ولا تبلى، أنهارا لا تنضب ولا يتغير طعمها... منذ أيام فقط تمكّن العلماء من التقاط صورة لثقب أسود عمرها أكثر من 55 مليون سنة ضوئية! عبارة عن منطقة فى الفضاء ذات كثافة هائلة، تحتوى على كتلة عظيمة من المادة أكبر كثيرا من حجمها، فينشأ عنها جاذبية تلتهم كل شىء وأى شىء، فينمو حجمها ويتسع قطرها باستمرار، حتى أنها تلتهم الضوء نفسه فلا يتسنى له اختراقها. لا يمكن لأى جسم أن يخرج من تلك الكتلة إن هى وعته بداخلها، ولا يمر بالقرب منها أى جسم إلا أصبح بطيئا للغاية، حتى إذا اقترب جدا بدا وكأن الزمن قد تجمّد تماما داخل هذا الثقب الأسود!

تخيل معى شعاعا من الضوء يمر بالقرب من ثقب أسود بسرعته المعروفة (حوالى 300 ألف كيلومتر فى الثانية)، وإذا كانت سرعة الضوء لن تتغير، والسرعة هى حاصل قسمة المسافة على الزمن، ولأن المسافة التى يجب أن يقطعها الضوء سوف تكون كبيرة للغاية، فعلينا أن نعوّض بزيادة الزمن فى المعادلة كى نحافظ على سرعة الضوء الثابتة، وهكذا نستمر فى التعويض مع زيادة الكتلة التى لا تتوقف عن النمو حتى يصبح الزمن (لا نهائى)! هذا نموذج واحد لظاهرة كونية أنعم الله علينا أن نراها بأعيننا وعدسات علمائنا، تجسّد ملمحا للخلود وأنه أمر ممكن، فقط إذا توافر الجسم الذى ينجو ويتعايش داخل تلك الكتلة السوداء. وإن الذى خلق الكون بثقوبه المتعددة التى هى بوابات فى اتجاه واحد إلى عوالم لا نعرفها، لقادر على أن يخلق أجسادا تسكنها أرواحنا، لتعيش فى محيط أقوى من الزمن نفسه الذى هو خلق الله المبدع وأحد تجليات قدرته.

***
ولأن الثقب الأسود كان نجما مضيئا فى مرحلة سابقة من حياته، قبل أن يموت وينفجر وينشأ عنه تلك الكثافة والجاذبية المخيفة، فقد ارتبط مفهومه فى مخيلتى بالمشروع الكبير الذى نشأ رابحا قويا، ومحققا لأهدافه التنموية، ثم أخذ يشيخ ويترهّل حتى عجز عن الاستمرار والوفاء بالتزاماته تجاه ملّاكه والعاملين وأصحاب المصالح المرتبطة به، لكنه كان فيما مضى مشروعا كبيرا بما يكفى لترك كتلة كبيرة من الآثار والتداعيات، التى أصبحت ثقبا غائرا يلتهم كل شىء يمر به أو يحاول أن يندمج فيه.

لا تعجب فتلك حال بعض الشركات التى ظن الناس أن بمقدورها تحدّى الزمن والاستمرار إلى أجل لا نهاية له، بينما افتقرت إلى أبسط مقوّمات البقاء حية مشعّة. فالنجم يموت بعد أن يستنفد وقوده من الهيدروجين والهيليوم، وكذلك المشروعات والشركات العملاقة تموت إذا عجزت عن مواكبة العصر وتطوراته، وأخذت بأسباب التنافسية وزيادة الإنتاجية وتأهيل العاملين ومختلف عناصر الإنتاج. يصغر «حجم» المشروع بشكل ملفت، تتراجع إيراداته، تستحوذ على أصوله مديونياته، يتراجع نصيبه السوقى إلى ما يلامس الصفر، مع ذلك تكون كثافة سمعته التاريخية، وحجم عمالته، وأدواته المؤثرة فى المجتمع كبيرة للغاية إلى الدرجة التى تجعله شديد التأثير فى محيطه، جاذبا لفتاوى العابرين.

تحوّل المشروع إلى ثقب أسود يتمثّل فى التهامه مليارات الدولارات فى اتجاه واحد لا مردود له ولا عائد عليه! يتمثل فى ابتلاعه مؤسسات قائمة ظن البعض أن دمجها فيه يبعث الحياة ويضخ الدماء فى المشروع الميت، ولكن الواقع يكشف غير ذلك، وتنتهى المؤسسات المندمجة نهاية بائسة، حيث لا يعلم المشاهد من خارج الثقب الأسود أين ذهبت، ولا فيم ابتلعت!

إذا رأيت الثقب الأسود فابتعد عنه قدر استطاعتك، حلّق بعيدا ولا تنظر إليه، واعلم أنه يتغذى على كل حى يمر به، فيكبر حجما ويزداد خطرا. لا يعنى ذلك أن تفترض الموت فى كل ما هو قائم، وأن تستسهل الإعلان عن وفاة المشروع فقط كونك عاجزا عن إدارته. لكن الحكمة تقتضى أن تنظر فى جميع مقوّمات حياة المشروع، أن تبحث عن سبب واحد يبقيه حيا وتعمل جاهدا على تغذيته حتى يولّد طاقة كافية لإعادته سيرته الأولى. استخلاص المزايا النسبية والتنافسية للمشروع أمر مهم لبعث الحياة فى سائر أركانه. ونميّز عادة بين المزايا النسبية والمزايا التنافسية تمييزا أكاديميا تعلّمناه من أساتذتنا فى مصر وخارجها. فالميزة النسبية تتحقق بفعل عوامل لا دخل لك فيها، عوامل مرتبطة بموقع جغرافى متميّز، بتربة مهيأة، بسوق كبير.. لكن الميزة التنافسية عليك أن تنتزعها انتزاعا من منافسيك، عليك أن تصنع لمشروعك ومنتَجك مزايا تكسبهما قيمة إضافية فى الأسواق.

***
الثقوب السوداء فى عالم الفضاء هى بوابات إلى المجهول، تتوقف عندها كل قوانين الفيزياء التى عرفها البشر، يقف أينشتاين وهوكينج وعباقرة العالم صاغرين أمام أسرارها التى لم يكشفوا إلا عن نذر يسير من محيطها الخارجى، وصدق من قال: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»...لا ندرى ربما اخترق البراق أحدها فى رحلة المعراج، فتفسّخ الزمن الذى نعرفه، وتمكّن الرسول الكريم (ص) من رؤية أهل الجنة وأهل الجحيم رؤى العين، وكأن عمرا طويلا لا يفصل بين موتهم وبعثهم وحسابهم وتنفيذهم لأحكام الله!
والثقوب السوداء فى عالم المشروعات هى بوابات إلى الفشل المحتوم وتراكم الديون وضياع الإنتاجية، واستهلاك الطاقات بدون أى عائد مقبول، تتوقف عندها قوانين الربحية والتنافسية التى عرفها البشر، ولا تستمر إلا أن تتغذّى على ثمار حية، وأموال الدولة، وإنتاجية العاملين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved