جهنم على الأرض

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 14 نوفمبر 2012 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

اتصلت المشرفة الاجتماعية بوالدة التلميذة «ن» تطلب حضورها على الفور إلى المدرسة. فى دقائق وصلت الأم (فى ذلك الوقت كان يمكن لأى شخص الوصول فى دقائق) لتجد ابنتها التلميذة فى المرحلة الابتدائية فى حالة هيستيرية، ومعها عدد من التلاميذ يصرخون ومنهم من كان فى حالة ذهول، وإلى جانبهم وقف طبيب ومسئول كبير فى المنطقة التعليمية استدعتهما المديرة.

 

وبعد الانتهاء من تقديم أقراص المسكنات والتوقيع على التحقيقات سمحت المديرة للتلاميذ بالانصراف من المدرسة مع أهاليهم، وجلست لتكتب بخط يدها قرار انهاء التعاقد مع معلمة الدين واللغة العربية، فقد أثبتت التحقيقات ان المعلمة تسببت فى إثارة حالة الهيستيريا التى ضربت الفصل حين أصرت على تقديم شرح مفصل لعملية حرق الأطفال فى جهنم يوم القيامة وتقول شهادات التلاميذ فى التحقيق ان المعلمة المتدينة والفاضلة رسمت على سبورة الفصل مناظر أطفال «والملائكة» تلقى بهم فى حفرة مشتعلة بالنار.

 

●●●

 

شرحت السيدة المكلفة بتعميق الوعى بالاسلام كيف تشوى النيران جلد الطفل ويأتى من الملائكة من يسلخه ويضع جلدا جديدا محله ليشوى. مرة بعد مرة، يشوى الجلد ويوضع جلد جديد ليشوى وهكذا إلى ما لا نهاية. والتأكيد متواصل بأن لا نهاية لعذاب الجحيم، وخصوصا لزبائن جهنم من الأطفال الذين لا يقولون الحقيقة أو يخفون شيئا فى نفوسهم وملابسهم أو الذين لا يطيعون المعلمات والمعلمين، فطاعة هؤلاء من طاعة الخالق الذى سيحاسبهم يوم القيامة ويأمر بحرقهم فى الجحيم.

 

●●●

كنت أحد شهود هذه الحادثة المأساوية، وقد تركت فى نفسى، وأنا مجرد شاهد، جرحا غائرا تصورت أنه اندمل. وتركت فى شخصية الطفلة جرحا آخر أعرف بالتأكيد انه لم يندمل. عرفت ان جرحى لم يندمل حين فرضت ظـروف العمل ان أجلس أمام الشاشة لأشاهد رجالا لم يسبق ان رأيت أمثالهم بهذا العدد أو على هذا الشكل الذى أوحى لى بأنهم يتعمدون تخويف المشاهدين من أبناء الشعب، وبالذات الأطفال، وإثارة الرعب فى نفوسهم. هاتفنى صديق ليخبرنى بأنه رأى بعض أطفال العائلة يفرون من غرفة التليفزيون فزعين. لا شىء فى الصورة التى «زينت» الشاشة طوال يوم الجمعة يمكن أن تجعل طفلا بريئا، أو امرأة عاقلة ومتدينة، أو رجلا صبورا متعلما يحب بيته وبلده، يسعد بمشاهدتها أو يتأمل فيها أو يتمنى أن يكون واحدا من هؤلاء. اكتظت الشاشة برجال وظيفتهم إثارة الرعب فى نفوس آمنة وطيبة فأحالوا جمعتهم إلى جمعة نكد وخوف. ما أكثر الذين ذكروا فى هذا اليوم كلمة الهجرة وما أكثر الذين جمعوا أبناءهم وبناتهم فى عصر اليوم ومسائه ليتشاوروا فى أمر الرحيل.

 

●●●

 

رجال على الشاشة اعتلوا المنصات ليخطبوا فخرجت من أفواههم قذائف لهب. هذه القذائف هى التى استحضرت إلى ذاكرتى الحادثة المأساوية التى وقعت للطفلة مع معلمة الدين واللغة العربية قبل ثلاثين عاما أو أكثر. الاختلاف الوحيد كان فى المشاهدين أو المشاركين، ففى الحادثة كانوا اطفالا دون العاشرة، وفى اليوم المشهود كانوا نساء ورجالا راشدين، ولكن فى الحالتين الهدف واحد وهو ارهاب المواطنين المصريين وسلب ارادتهم واخضاعهم لعمليات غسيل مخ يتحولون بعدها إلى كائنات مرعوبة ومسلوبة الإرادة تتوقع الموت فى كل لحظة بل وتتمناه وإن بكره سقيم، لأنها تعرف أن الموت الذى جعلوها تتمناه يأتى بعده الجحيم المؤكد حيث النار تنتظرهم لحرق جلودهم ولحم أجسادهم مرة بعد مرة بعد مرة. هذه النار تنتظر كل من فكر بعقله أو عرف كيف يتواصل مع خالقه عن طريق غير طريق الترهيب والتخويف، بمعنى آخر تنتظر غالبية الناس ومنهم هؤلاء الذين ساقهم حظهم السيئ ليكونوا مشاهدين يوم الجمعة فاعترضوا وبخاصة حين أشارت نحوهم مخترقة الشاشة أصابع الخطباء باعتبارهم من الكفار. وعقاب الكافر، حسب أحد الخطب النارية، الموت وبعد الموت الحساب وبعد الحساب، الحرق فى نار جهنم مرة بعد مرة بعد مرة ولأنك وأنت طفل لم تقل الحقيقة ذات يوم.

 

●●●

 

لم يخطر على بالى قبل ثلاثين عاما أو أكثر أن يوما سيأتى على بلادى أرى فيه بعض نسائها ورجالها يفضلون القبح والبشاعة على الاناقة والجمال، يتخلون عن طيب المعشر ومتعة الحوار ويستقرون على قسوة القلب والتعصب فى الرأى، يخفضون الرايات الملونة والمزركشة التى ازدانت بها حوارى مصر وأزقتها عبر القرون ليرفعوا رايات سوداء، يديرون ظهورهم للمستقبل خوفا منه وانكارا له أو استنكارا ويفتحون أذرعتهم لاسترداد لحظات من ماضى يتصورون خطأ أنهم يعرفون كل دقائقه وظروفه. لم اسمع خطيبا واحدا من هؤلاء «القدامى الجدد» يحاول أن يكسب محبة الناس بالحديث عن كيفية التوفيق بين هذه اللحظة الماضية التى يريدها أبدية وما حققته البشرية خلال القرون المتعاقبة من انجازات طبية وعلمية وثقافية وما تحقق للإنسان من حقوق وحريات.

 

●●●

 

كثيرة هى الأمم التى تعرجت مسيرتها، ولكن سرعان ما عادت من فضاء التيه تواصل تقدمها اقتداء بغيرها من الأمم العظيمة.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved