سوق الصرف والحاجة لسياسة اقتصادية مختلفة

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الإثنين 14 مارس 2016 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

ساد فى الأيام القليلة الماضية قدر من الهدوء فى سوق الصرف مع تراجع سعر الدولار الأمريكى قليلا بعد القرارات الأخيرة للبنك المركزى والتى فتحت الباب مرة اخرى للإيداع والسحب النقدى من البنوك من جانب الأفراد والشركات المستوردة للسلع الرئيسية. ولكن يظل هناك، فى الخطاب الإعلامى السائد، خلط شديد بين أسباب المشكلة وتداعياتها، أو بين المرض والعرض. ولذلك فما لم تجد المشكلة الاقتصادية الأصلية طريقها للحل، فإن تداعياتها سوف تستمر وتتكرر مهما كانت تدخلات وقرارات البنك المركزى.

والمرض هو زيادة ما يستورده البلد من سلع وخدمات عما يصدره، وعدم كفاية الموارد المالية المتاحة للدولة لتغطية هذه الفجوة، فتكون النتيجة هى زيادة الطلب على العملة الأجنبية وارتفاع سعرها فى السوق السوداء طالما بقى سعرها ثابتا فى السوق الرسمية. ولذلك فما لم تقم الحكومة بمراجعة الأسباب الرئيسية لدخولنا فى الأزمة الراهنة، وتتعامل معها بشكل جذرى، فإننا نكون بصدد مسكنات وإجراءات مؤقتة وتأجيل لأعراض سوف تتكرر إن عاجلا أم آجلا. تحديدا فمن الواجب استغلال فرصة قيام الحكومة بالاعداد للبرنامج الاقتصادى الذى تنوى تقديمه للبرلمان قبل نهاية هذا الشهر من أجل النظر فى الملفات الأربعة التالية:

الملف الاول هو ضرورة تقديم رؤية اقتصادية أكثر وضوحا مما كان عليه الحال خلال العامين الماضيين لأن استمرار حالة التخبط والتناقض فى السياسات الحكومية جاء بآثار سلبية شديدة. والرؤية الاقتصادية تختلف عن بيان الحكومة والموازنة السنوية التى تعلن فيها الحكومة عما تتوقع تحصيله من موارد وما تنوى القيام به من انفاق عام، كما تختلف أيضا عن وثيقة «٢٠٣٠» التى قامت وزارة التخطيط بإعدادها وتتضمن مستهدفات التنمية خلال الخمسة أعوام القادمة. ما ينقصنا هو تعبير واضح عن توجه الدولة الاقتصادى خلال السنوات القليلة القادمة: هل تنوى سلوك سياسة توسعية تعتمد على زيادة الضرائب ومعها الانفاق العام، أم ترشيد هذا الانفاق من أجل الحد من عجز الموازنة ومعها الدين الداخلى والتضخم؟ هل ترغب فى استكمال منظومة الحماية الاجتماعية لكى تشمل تطوير التعليم والصحة وتوفير فرص العمل، أم تكتفى بضبط توزيع الخبز واطلاق برنامجى «كرامة» و«تكافل»؟ وهل تسعى لتحقيق النمو الاقتصادى عن طريق تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتوفير سبل التمويل والتدريب والمعلومات والتسويق لها، أم تظل معتمدة على الصناعات الكبيرة وتمنحها كل الاعفاءات والمزايا والدعم المتاح؟ وهل لديها برنامج للنهوض بقطاعات اقتصادية معينة، أم تستمر فى الحرب على كل الجبهات؟ الإجابة على هذه الأسئلة مطلوبة لكى يفهم الناس المسار الذى تسلكه الدولة ويستعد المستثمرون لظروف السوق خلال السنوات المقبلة.

أما الملف الثانى فهو ضرورة الاعتراف بأن السياسات الاستثمارية التى جرى الاعتماد عليها فى العامين الماضيين لم تأت بالنتائج المطلوبة، وخاصة فى أعقاب مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، وإن وقتا ثمينا قد ضاع ومعه فرص تمويل خارجى واستثمارات كبيرة بسبب التمسك بقانون الاستثمار الذى لم يحقق أيا من الأهداف التى وعد بها، بل أدى إلى مزيد من التعقيد والاضطراب فى المناخ الاستثمارى، والتصارع بين الجهات الحكومية، والشلل التام، فى وقت كنا أحوج ما نكون فيه إلى الانطلاق بمعدلات الاستثمار والنمو. وللأسف إن كل الأصوات التى علت خلال العام الماضى محذرة من الانسياق وراء هذا التشريع العقيم ومن تأجيل الإصلاحات الجادة فى النظام القانونى للاستثمار قد تم تجاهلها لكى لا تعترف الدولة بخطأ إصداره.

الملف الثالث هو المشروعات القومية العملاقة. لا احد يكره أن يكون فى بلده عاصمة جديدة، ولا أن يضاف إلى رقعتها الزراعية مليون فدان أو أربعة ملايين، ولكن ليس من الممكن الاستمرار فى تنفيذ مشروعات بهذا الحجم دون تقدير آثارها على الموازنة العامة، ودون المفاضلة بينها وبين احتياجات المجتمع فى الانفاق الاجتماعى وفى تجديد وتطوير المدن القديمة وشبكات الرى والصرف والنقل القائمة والمناطق العشوائية التى يقطنها الملايين. الإدارة الاقتصادية لا تعنى تنفيذ مشروعات كبرى مهما كانت سرعتها وكفاءتها، بل الاختيار بين أوجه مختلفة للإنفاق والتوازن فى تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية مختلفة.

وأخيرا فإن الملف الرابع هو السياسة الضريبية. القدر الأكبر من الضرائب على الدخل يدفعه موظفو الدولة، والشركات الكبيرة ذات الدفاتر المنتظمة، والعاملون لديها، وخارج هذه المجموعات الثلاثة فإن هناك مساحة هائلة للتوسع فى عدد دافعى الضرائب وزيادة الحصيلة الضريبية دون اثقال كاهل من يدفعون بالفعل. وانا ادرك تماما أن هذا أمر قوله أسهل من فعله، ولكن ما لم نبدأ فى اتخاذ خطوات جادة على هذا الطريق فسوف يظل الميزان الاجتماعى مختلا.

سياسات وقرارات البنك المركزى شديدة الأهمية فى تحديد كيفية التعامل مع الأزمة من الوجهة النقدية والائتمانية. ولكن التعامل مع أصل الأزمة الاقتصادية مسئولية الحكومة والسلطة التنفيذية. أما اعتبار أن مشكلتنا تكمن فى مجرد ارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه وانتظار أن يأتى البنك المركزى بحلول سحرية فليس وضعا طبيعيا ولا مطمئنا ولا قابلا للاستمرار.

***
نٌشر بعد كتابة هذا المقال أن البنك المركزى طرح عطاء دولاريا للبنوك بسعر يقترب من تسعة جنيهات للدولار الواحد، وهذا قرار يحتاج تعليقا لاحقا ولكنه لا يؤثر فى ما يطرحه هذا المقال بضرورة اتخاذ خطوات طويلة الأمد لتصحيح هيكل الاقتصاد الحقيقى
   

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved