أبعدوا الجيش.. وابتعدوا عنه

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 13 أكتوبر 2011 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

كاد يقع ما كنا نخشى أن يقع. انفتح باب من أبواب جهنم ليطل منه الناس على ما يمكن أن يحدث لو اندلعت نار فتنة طائفية. خسر الوطن فى يوم أكثر مما خسر فى أيام عديدة مر بها فى الأسابيع الأخيرة. فاض الغضب حتى أغرق ضفتى السياسة فى مصر، أغرق ضفة الحكم وأغرق ضفة المحكومين وأغرق ما يربط أو يفصل بينهما من جسور. أسال الفاسدون والظالمون دما جديدا وأضافوا خرابا ودمارا وتعقدت المهمة الملقاة على عاتق جيل الثورة، وعاتق من تطوعوا لشد أزرها وتسهيل مسيرتها.

 

نسمع منذ أسابيع عن شكوك متزايدة فى قدرة الحل الديموقراطى على مواجهة التحديات التى طرحتها تعقيدات الإدارة والحكم فى الآونة الأخيرة، ونسمعها أشد إلحاحا بعد أحداث الأيام القليلة الماضية. ونسمع فى الوقت نفسه عن شكوك أكثر فى قدرة المجلس العسكرى وأداته المدنية الممثلة فى مجلس وزراء مسلوب الصلاحية والرؤية والرسالة على إعادة الانضباط إلى الشارع المصرى، واستعادة الأمل لدى جموع المصريين فى مستقبل أفضل، وتخليص الوطن من «مؤامرات» السوء والشر ومن فساد الفاسدين وتطرف المتعصبين.

 

أعرف بالتأكيد أن المرحلة الانتقالية فى تاريخ الثورة المصرية تحولت من نقطة مبهرة فى تاريخ الانتفاضات الشعبية إلى نقطة سوداء بل حالكة السواد. كان الأمل كبيرا فى أن نستفيد من هذه المرحلة لتعميق أنبل أخلاقيات الثورة وهى كرامة الإنسان وحقه فى أن يعيش غير خائف من تعذيب أو احتقار أو امتهان بسبب دين أو عقيدة أو منظومة أخلاق يؤمن بها ويستعين بها ضد الظالم والمتجبر والمتغطرس. كان أملنا كبيرا، واستحق إعجاب الملايين فى دول الغرب والشرق على حد سواء، فى أن نزيح بهدوء وسلام بعيدا عن قلب مصر ورئتيها رءوس الفساد والتخريب، وأن يكون القانون رائدنا ودافعنا وسلاحنا الوحيد. وكان أملنا كبيرا فى أن نضع فى الشهور الأولى من المرحلة الانتقالية أسس نهضة اقتصادية وتعليمية واجتماعية وثقافية، وأن نبدأ على الفور فى إصلاح الأجهزة البيروقراطية والأمنيةالتى ساهمت فى أن تصبح مصر نموذجا لأسوأ أنواع الفقر والتعذيب وإهدار حقوق الإنسان.

 

ليسوا أفضل منا هؤلاء الذين أسسوا لمراحل انتقالية فى أوروبا الشرقية وقبلها فى الصين وفى فيتنام وفى معظم دول أمريكا اللاتينية.

 

هل نعود فنقسو على أنفسنا ونجلدها ونعذبها ونعلن فى كل مناسبة أننا شعب غير أهل للإصلاح والتقدم والحرية والكرامة؟. أم نتشجع ونواجه مرارة واقع أليم ونبحث عن هذا العنصر الذى حرمنا من استكمال مشوار انتقالنا من مرحلة استبداد إلى مرحلة الحرية والكرامة.

 

●●●

 

لم يحدث فى كل التحولات الانتقالية التى شهدها التاريخ الحديث أن أمة قررت التغيير بعد طول عذاب وقهر وقمع ثم توقفت عن التوصل إلى توافق حول أخطر مهام المرحلة الانتقالية وهى مهمة تحديث مؤسسة الأمن الداخلى وووضع برامج إعادة تدريبها على أسس تحترم حقوق الإنسان وفى الوقت نفسه تستطيع مواجهة قوى الفساد والإرهاب والفوضى فى المجتمع.

 

  كان المفترض أن تكون الشهور الماضية حاسمة فى إنجاز هذه المهمة ومع ذلك بقى الأمن الداخلى معضلة تتحدى شرعية الثورة ومسئولية الجهة المكلفة من الشعب لتنظيم عملية الانتقال وليس التدخل فيها، ما زالت الأسئلة حول دور الأمن الداخلى فى السابق والحاضر والمستقبل تبحث عن إجابات، وعندما غابت الإجابات أو تأخرت عن قصد أو إهمال أو لا مبالاة تحولت الأسئلة إلى اتهامات. غابت الأسئلة وتعددت الإجابات وحامت غيوم الشك والريبة والتواطؤ.

 

●●●

 

لم يحدث فى كل التحولات الانتقالية التى تابعناها، بشوق وإعجاب وأحيانا بحسد المحبين، أن أمة غضبت وثارت واستعدت لإعادة البناء، وفجأة وربما بفعل فاعل ترددت ثم توقفت قبل أن تتقهقر.

 

وقفت أمام قضايا حاسمة وقفة الحائر والمرتبك. وأمام قضية بعينها وقفت عاجزة عن الحركة حين كان يتعين عليها، مثل غيرها من الأمم فى المراحل الانتقالية، التوصل إلى توافق أخلاقى وسياسى ودستورى مع قيادات المؤسسة العسكرية ورموزها على شكل دستورى مناسب للمؤسسة خارج الإطار الذى ينظم العلاقات الاجتماعية والحقوقية والديمقراطية داخل الدولة. المعروف أن أكثر الدول التى أنهت مراحلها الانتقالية بنجاح واستقرار فانتقلت إلى مصاف الدول الناهضة والمتقدمة حققت هذا الإنجاز بعد أن توصلت إلى هذا التوافق التاريخى.الذى يضمن للمؤسسة العسكرية حقوقها الكاملة فى التسلح والتطوير والاستعداد وحماية تاريخها ومكانتها واحترامها مثل ما لغيرها من المؤسسات التى يقرها الدستور، ويحميها من إغراءات التدخل فى شئون الحكم بما يجلب عليها المشكلات وتوتر علاقاتها بالشعوب والنخب المدنية وبكل فرق المجتمع المدنى وفصائله.

 

انتهى فصل فى علوم السياسة كان يشيع خطأ أن ثقافات معينة جبلت على أن يحكمها العسكر ويسود فيها حكم السيف، عاشت محكومة منهم وستعيش إلى أبد الآبدين هكذا. شارك فى إشاعة هذا الظن مستشرقون أساءوا إلى العروبة والإسلام أبلغ إساءة، وبخاصة حين صار بعض مثقفينا يرددون مقولات غير دقيقة عن علاقة ثقافتنا السياسية بالروح العسكرية وعن ميل شعوبنا إلى الخضوع لحاكم عسكرى متجاهلين حقيقة تاريخية هى أن أغلب شعوب العالم خضعت فى الأزمنة القديمة والوسيطة إلى العسكريين والكهنة ولم تجبل على رفض الديموقراطية وحكم نفسها بنفسها. لا يوجد شعب لا يصلح للديموقراطية أو غير قابل لأن يتحول إليها إنما يوجد فى كل الشعوب أفراد تعودوا على إصدار أوامر وتنفيذها بدون مناقشة ولا تشاور، هؤلاء يجدون صعوبة فى فهم حرية الناس فى تبادل الآراء والمشاركة فى اتخاذ القرار.

 

انتهى هذا الفصل فى علوم السياسة، وبخاصة بعد أن نشطت حركات التحول فى دول أمريكا الجنوبية وفى أذهان قادتها محو هذه الأسطورة وإثبات أن السياسة مهنة مفسدة لتقاليد وأخلاقيات العسكريين، وأن مكانة الجيش وتقاليده يجب أن تكون بعيدة قدر الإمكان عن السياسة ومناوراتها وتحالفاتها، وفى الوقت نفسه إثبات أن التقاليد العسكرية تتناقض مع طبيعة الشارع المدنى فى أى محتمع، فالشارع بحكم التعريف ظاهرة غير قابلة للانضباط المحكم.

 

●●●

 

وقع ما خشينا أن يقع. تمنينا أن نسرع الخطى ليعود المجلس العسكرى إلى عمله اليومى المعتاد ويبدأ الممثلون المنتخبون ديمقراطيا فى إدارة شئون البلد، بمساعدة المجلس إذا احتاجوا إليه. وتمنينا أن يهرع المجلس العسكرى نحو حل مشكلة الأمن الداخلى وهى أقرب المشكلات السياسية فى المراحل الانتقالية إلى فهم المجلس ومجال تخصصه، وهى أيضا مفتاح العودة إلى مسيرة المرحلة الانتقالية التى توقفت بسبب موقف الأجهزة الأمنية من الثورة والشعب ومن المجلس العسكرى ذاته. تأخرنا، فوقع ما كنا نخشى أن يقع، وهو أن يكلف المجلس قوات الجيش بأداء مهام هى من صميم اختصاص الأمن الداخلى، وأن تترك هذه القوات لتدخل فى صدام مباشر مع متظاهرين أو محتجين وبينهم من يريد للثورة الإحباط أو يريد إشعال فتنة بين الجيش والشعب أو قطاع فيه.

 

وقع المحظور ودخل الجيش ومعه مكانته وسمعته واستقلاليته فى مواجهة مع الشارع، أى مع الشعب ووقعت فتنة بينهما سارع الفاسدون إلى صبغها بالطائفية. هناك بوادر فتنة لا شك فيها ويجرى تغذيتها باهتمام شديد، وقد أراد المفسدون أن يصيبوا هدفين بحجر واحد فأشعلوا فتنتين، فتنة طائفية وفتنة بين الشعب والجيش، وكلاهما قابل بل وجاهز للاشتعال.

 

●●●

 

أتمنى، وأتوقع، أن يصدر عن المجلس العسكرى ما يعيد إلى الشارع المصرى الأمل فى ان نستأنف مسيرة الانتقال بعد توقف طويل وتخريب عميق. أتوقع أن يعلن أنه سيقوم بمراجعة شاملة وعلمية «بالمعنى العسكرى»، لجميع نواحى الأداء التى تحمل عبئها تكليفا أم تطوعا على مدى الشهور التسعة الماضية. أتوقع أن نراه يقدم نموذجا لتجربة نقد ذاتى موضوعية وجريئة، بخاصة بعد أن وقعت تطورات تسببت فى مواجهات تجذرت فى أذهان المصريين، وعن طريق أجهزة الإعلام الحكومية، على أنها نشبت بين طرفين أحدهما هو الجيش. وهذا تطور خطير لا نستسيغه لأننا ندرك تماما خطورته. فالجيش ليس طرفا، ولا يجب أن يكون طرفا، فى مشاكل داخلية، فتصيبه إساءات من طرف أو أطراف حريصة كل الحرص على عدم الدخول فى مواجهة مع الجيش.

 

●●●

 

رجاء، أبعدوا الجيش عن تعقيدات الحكم وأزمات السياسة والإدارة فى مرحلة تحاك فيها مؤامرات من كل الأنواع وتتعرض لتجاوزات من كل الأطراف وتحيط بها مظاهر غضب ومطالب من عديد المحتاجين والمحتجين.

 

ندائى إلى رجال المجلس العسكرى.. وإلى جميع أطراف الأزمة المصرية الراهنة: أبعدوا الجيش.. وابتعدوا عنه. فالجيش المصرى لم يكن فى البداية طرفا فى الثورة وما زال يعطى الانطباع أنه يريد أن يقف على مسافة منها ومن أطرافها، ولعل فى هذا الموقف حكمة لا ندركها ونتمنى أن نفهمها أو على الأقل نتفهمها. 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved