عيد الخصوبة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 12 أكتوبر 2011 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

بدأت أتخلص من أوراق قديمة ازدحمت بها الأرفف والأدراج. بعض هذه الأوراق تحقق لها الخلود حين نقلناها أو محتوياتها منذ سنوات قليلة إلى ذاكرة الشبكة الإلكترونية.

 

بعض آخر احتاج وقتا أطول لتقرير مصيره فقد ضم إلى جانب أشياء أخرى خاصة جدا مجموعات من بطاقات بريدية. والبطاقة البريدية لمن لا يعرف من بنات وأبناء جيل الشباب هى نوع من الرسائل كانت تكتب بخط اليد على أحد وجهى ورقة مقواة، وعلى الوجه الآخر صورة فوتوغرافية ملونة أو رسم تشكيلى لمنظر أو آخر من المناظر السياحية الشهيرة.

 

جلست أقرأ بطاقة بعد أخرى، أحاول أن أتذكر كاتبها الذى هو مرسلها، وأتذكر تفاصيل المكان الذى تظهر صورته على الوجه الآخر للبطاقة. وأتذكر فى الوقت نفسه حكايات وقعت معى أو مع غيرى فى تلك الأيام، أيام شباب يحركه الفضول والرغبة فى أن يرى ويسمع ويلمس ليعرف أكثر، فلا شىء يصمد أمام قوة النسيان أكثر من شىء سمعته ورأيته ويا حبذا لو كنت لمسته أو مررت عليه بأناملك.

 

أظن أننا عندما كنا نكتب رسالتنا القصيرة فى ظهر البطاقة، لم يشغلنا كثيرا احتمال شبه مؤكد، وهو أن أشخاصا عديدين غير المرسل إليه أو المرسلة إليه سوف يقرأونها. كنا نتوقع أن يقرأها عامل الفندق أو موظف البريد المكلف باستلام البطاقة، وأن يقرأها موزع البريد المكلف بتوصيلها إلى العنوان المبين عليها، وأن يقرأها بواب العمارة إن كان ممن يقرأون ويكتبون. توقفت أمام بطاقة بريدية كان المفروض أن أرسلها من مدينة الأبيض فى أعالى ولاية كردفان إلى صديق بالقاهرة. توقفت متذكرا تفاصيل المكان الذى تظهر صورته على البطاقة ويبعد عن مدينة الأبيض بضع ساعات بالسيارة. تظهر فى الصورة ساحة ترعى فيها عشرات الأبقار وعدد قليل جدا من الثيران، وحولها من كافة الجهات جبال خضراء رائعة الجمال. ساقنى الحظ أن أكون فى هذا المكان فى يوم يحتفل فيه أهل قبيلة من قبائل «النوبا» بيوم الخصوبة، يوم يصلى فيه الشعب للسماوات والآلهة لتحفظ وتنمى خصوبة التربة والجبال والمراعى، وخصوبة الثيران والأبقار مصدر الثروة والحياة، وخصوبة شباب القبيلة من الجنسين.

 

●●●

 

دعانا كبير القبيلة لنقضى الليلة فى خيمة قريبة من الساحة، وتولى بنفسه إيقاظنا قبل الفجر لنستعد للاحتفال. خرجنا إلى الساحة لنجد الشعب فى أبهى زينة. الشعر مصفوف فى ضفائر لا شك أن تصميمها احتاج لليلة بطولها، والعقود والأساور تتجمل بها النساء والرجال والأطفال على حد سواء، ولا أحد باستثناء كبير الناس ومجلس القبيلة، اهتم بتغطية جسده، إلا ربما بأوراق شجر ليس بينها على كل حال ورق التوت.

 

قضت الأصول والتقاليد الموروثة فى ثقافة القبيلة بأن تطلق الثيران عند الفجر لتركض فى الساحة ومسالك الجبال ووديان الأنهار، وبعد خروجها بساعة  يبدأ الركض وراءها شبان وصلوا سن البلوغ، ويستمر الركض والسباق حتى فجر اليوم التالى. أما الفتيات، وبخاصة من نضجن منهن، فيقضين الليل يرقصن حتى الفجر ويقضين النهار بأكمله يتزين بينما ينشغل كل رجال ونساء القبيلة بالرهان على الشاب الذى سيعود من السباق معلنا أنه أخضع ثورا لإرادته وقيده بالحبال، وداعيا كبار القرية لمرافقته إلى حيث ترك الثور مقيدا وصاغرا. يشهد الكبار وتدق الطبول وتزغرد النساء وتتعالى صيحات الإعجاب وتستمر حتى تحين اللحظة التى ينتظرها الجميع. ينهض كبير القبيلة وهو فى أبهى زينة فتصطف الفتيات المؤهلات نضجا وجمالا وثراء ليختار البطل منهن من يريد وبالعدد الذى يريد.

 

كشباب وضيوف غرباء كنا نغلى بالفضول فى انتظار مشهد البطل وهو يختار زوجة أو أكثر من بين عشرين فتاة. حريته كاملة فى اختيار من يعشق قلبه. لم نصدق  أن حريته فى الاختيار وفى عدد من يختار حرية غير منقوصة وغير خاضعة لشروط أو قيود.. رغم التأكيدات التى انهمرت علينا من كبار القبيلة رجالا ونساء.

 

●●●

 

تصادف أن كان بين الحاضرين شاب من أهل القبيلة يعمل فى مدينة الأبيض، فهو إذا يتحدث العربية ويقدر فضولنا. سألناه فأكد هو الآخر أنه لا توجد شروط تمنع الفائز من اختيار من يشاء وبالعدد الذى يريد. هناك فقط عرف متعارف عليه، يعرفه الشبان متى حل البلوغ، يقضى العرف بأن حق البطل الفائز فى سباق صيد الثيران أن يختار من يشاء من بنات القبيلة وأى عدد يريد بشرط أن يعقد عليهن جميعا خلال اليوم التالى مباشرة لإعلان فوزه. عاد الصديق الذى يتحدث العربية ليؤكد أنه إجراء عادى وليس شرطا، إجراء مرتبط بأعراف القبيلة يلتزم الفرد به وينفذه حرفيا وإلا تعرض لانتقام جماعى يقرره شيخ القبيلة وينفذه شبان القبيلة من الجنسين، ويأخذ الانتقام عادة شكل الإجراءات التى اتبعت مع الثيران، إذ يطلق سراح البطل الذى لم ينفذ تعهده ويؤمر بأن يركض فى الغابات ومسالك الجبال ووديان الأنهار ووراءه يركض شباب القبيلة حتى يمسكوه ويعودوا به مقيدا ليلقى فى الساحة خائبا وذليلا وسط شماتة الفتيات اللائى اختارهن ولم يف بواجبه كزوج وبطل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved