البلطجى يحاكم القاضى

أشرف البربرى
أشرف البربرى

آخر تحديث: الأربعاء 12 سبتمبر 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

رسالة رائعة تلك التى بعث بها قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى قضاة العالم وشعوبه، عندما ردوا على التهديدات الأمريكية لهم لإجبارهم على التراجع عن ملاحقة العسكريين الأمريكيين المتهمين بارتكاب جرائم حرب فى أفغانستان.
فالعالم فوجئ ببلطجة أمريكية غير مسبوقة ضد المحكمة الدولية عندما هددها مستشار الأمن القومى الأمريكى ليس فقط برفض الاعتراف بأى إجراءات تتخذها المحكمة ضد العسكريين الأمريكيين، وإنما هدد بمحاكمة قضاة ومحققى المحكمة أمام القضاء الأمريكى إذا ما أصروا على الوصول إلى حقيقة الجرائم الأمريكية فى أفغانستان ومصادرة أموال هؤلاء القضاة فى البنوك الأمريكية.
فى المقابل فقد قرر قضاة المحكمة ومحققوها الرد على «البلطجى الأمريكى» بقوة القانون والمبادئ الإنسانية السامية فأكدوا فى بيان أن «المحكمة الجنائية الدولية، بصفتها ساحة قضاء، ستواصل عملها دون أن يردعها شىء، تماشيا مع المبادئ ومع فكرة سيادة القانون الشاملة».
وكانت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، وهى من جامبيا، قد قالت فى العام الماضى إن هناك «أسسا منطقية للاعتقاد» بأن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت فى أفغانستان وإن تحقيقاتها ستشمل جميع أطراف الصراع بمن فى ذلك أفراد القوات المسلحة الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سى آى اى».
وبدلا من أن تسعى إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الموصوف بكل ما هو سيئ فى الإعلام الأمريكى، إلى إثبات براءة جيش بلادها ومخابراتها من جرائم الحرب، قررت ممارسة البلطجة السياسية والقانونية فى أوضح صورها ليصبح المجرم هو الذى يهدد بمحاكمة القاضى حتى لا ينظر الأخير فى جرائمه.
بالطبع من المستبعد أن تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من القيام بواجبها فى ملاحقة «مجرمى الحرب» الأمريكيين، لأسباب لا تتعلق بنزاهة القضاة ولا شجاعتهم وقدرتهم على تحدى البلطجة الأمريكية، وإنما بسبب قدرة الولايات المتحدة على ممارسة هذه البلطجة على عواصم وحكومات وشركات ومؤسسات فتمنعها من التعاون مع المحكمة وتجبرها على عدم تسليم الأمريكيين المطلوبين إذا ما وجدوا على أراضى هذه الدولة. ورغم ذلك فإن تمسك المحكمة الدولية بحقها فى البحث عن الحقيقة ومعاقبة المسئولين عن جرائم الحرب فى أفغانستان حتى لو كانت هذه الجرائم قد جاءت فى سياق «الحرب العالمية ضد الإرهاب»، وحتى لو كان المجنى عليهم من الأفغان «المشتبه فى تورطهم فى إيواء ودعم الإرهابيين» وحتى لو كان المطلوبون ممن يرتدون «الزى الميرى» للجيش الأمريكى أو يحملون «كارنيه المخابرات الأمريكية»، هو موقف يستحق التقدير.
فى المقابل، وإمعانا فى البلطجة فإن التهديد الأمريكى للمحكمة الجنائية الدولية لم يقتصر فقط على النظر فى الجرائم المتهم فيها أمريكيون وإنما امتد أيضا إلى جرائم الإسرائيليين وغيرهم من حلفاء واشنطن حيث قال مستشار الأمن القومى الأمريكى جون بولتون إن بلاده ستعاقب قضاة ومحققى المحكمة الجنائية الدولية إذا ما أصروا على التحقيق فى الجرائم التى ارتكبها أمريكيون أو أى من حلفاء واشنطن.
ورغم البلطجة الأمريكية، ورغم أن مساحة الحركة وهامش المناورة أمام المحكمة الجنائية الدولية فى مواجهة القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية الأكبر فى العالم، تظل الحقيقة الواضحة وهى أن القاضى الحق قادر على تحدى السلطة الباطشة مهما كانت قوتها، وأن واجبه السعى وراء تحقيق العدل حتى لو لم يدركه أو حالت قوة قهرية دون تحقيقه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved