شاهندة والتاريخ

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 12 يونيو 2016 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

حاورها الفيلسوف الفرنسى الأشهر «جان بول سارتر» فى تجربة «كمشيش» التى ذهب إليها يسأل ويستقصى عما قرأ وسمع.

لعله فوجئ بالسيدة الريفية الشابة تسأله وتستقصى منه حقيقة موقفه من القضية الفلسطينية وعذابات شعبها.

أسئلتها كإجاباتها أوحت بأن هناك شيئا جديدا يولد فى مصر وأعطت رسالة من عمق ريفها بوحدة المصير العربى.

لم يكن «سارتر» وحده من اهتم بقصة الصراع بين الفلاحين والإقطاع فى «كمشيش»، فقد تدفق على تلك القرية المصرية صحفيون وسياسيون ومفكرون غربيون يحاورون أهلها ويحاولون أن يقرأوا فيها ما قد يحدث فى مصر غدا.

كانت تجربة «كمشيش» مثيرة بصراعاتها وملهمة برسائلها فى ستينيات القرن الماضى وبدت «شاهندة مقلد» رمزا لقضية فلاحيها.

فى عام (١٩٦٦) اغتيل زوجها «صلاح حسين»، وكان الاغتيال تعبيرا عن ضراوة الصراع بين حركة فلاحية ناشئة وإقطاع يطل من جديد بالرصاص.

انحاز «جمال عبدالناصر» إلى فلاحى «كمشيش» وتحدث فى خطاب علنى عما جرى ودلالاته، مشيرا أكثر من مرة إلى أن ذلك يحدث داخل دائرة «أنور السادات».

بعد رحيله انقلبت المعادلات بالكامل، وتولى «السادات» بنفسه التنكيل بـ«كمشيش» ونفيت «شاهندة» خارج قريتها مع فلاحين آخرين لثلاث سنوات كاملة، كما جرى هدم النصب التذكارى لـ«صلاح حسين» كأنه حذف من الذاكرة لأى معنى.

وكان ذلك تعبيرا عن خلل فادح فى بنية «نظام يوليو» سمح بتقويضه من داخله.

بفضل يوليو اكتسب الفلاحون المصريون حقوقا لا مثيل لها فى تاريخهم كله ومن ثغرات نظامها السياسى جرى الانقضاض على إنجازاتها واحدا إثر آخر.

رغم الانقلابات الحادة فى السياسات والتوجهات أثبتت «شاهندة» قدرتها على الصمود.

وهبت نفسها بالكامل لقضية الفلاحين، لم تهادن للحظة ولا خلعت ملابس الحداد السوداء مرة واحدة على مدى نصف قرن.

بأى قراءة منصفة فإنها الشخصية النسائية المصرية الأبرز فى النصف القرن الأخير من حيث حجم الدور ومنسوب الإلهام.

لم يكن لديها سوى «القوة الأخلاقية» فى طلب الحق بالحياة والأرض.

وقد اجتازت اختبارات الزمن بانفتاحها على قضايا وطنها وأمتها واستعدادها الدائم لدفع أثمان مواقفها.

فى السبعينيات غنى باسمها «الشيخ إمام» من شعر «أحمد فؤاد نجم» «يا شاهندة وخبرينى» على نسق «يا بهية وخبرينى» لطلب الحقيقة ممن يؤتمن ويوثق فى روايته.

لم يكن السؤال لـ«شاهندة» عمن قتل «صلاح حسين»، فالقصة ليست غامضة كحال «بهية» و«ياسين» فى الرواية الشعبية.

هو سؤال يحمل إجابته فى دعوتها أن تخبر وتروى وقائع التنكيل فى سجن القناطر الخيرية وأن تخبر وتبشر بانفراج قريب.

بتعبير «نجم» نفسه ترمز «بهية» «أم طرحة وجلابية» إلى مصر.

رغم أنها كانت فى مطلع شبابها نظر إليها كـ«أم لجيل جديد»، ورغم أن تجربتها بالكاد غادرت بدايتها اكتسبت رمزية مبكرة.

وقد حاولت بقدر ما تستطيع أن تحافظ على صورتها، المرأة الريفية القوية الملتزمة بقضايا وطنها وأمتها، دون صخب الادعاء.

شاركت فى كل الفعاليات الوطنية لدعم روح المقاومة بعد نكسة «يونيو» ومقاومة التطبيع بعد اتفاقيتى «كامب ديفيد» ولا توجد معركة واحدة تخلفت عنها.

انضمت إلى «اللجنة القومية لمناهضة التطبيع» التى قادتها الناقدة الأدبية الراحلة الدكتورة «لطيفة الزيات» بذات الحماس الذى دعاها إلى زيارات جبهة القتال.

قدرتها على الثبات أمام المحن أكسبتها روح المقاتل الذى لا يطلب لنفسه شيئا.

كان الفرح ضنينا عليها، فقد استشهد زوجها على يد الإقطاع واستشهد شقيقها على جبهات القتال واغتيل أحد أنجالها فى ظروف غامضة بالعاصمة الروسية موسكو، وعانت طويلا من التنكيل والتشهير والمرض.

مع ذلك صمدت وقاومت وواصلت العطاء حتى النهاية فانضمت إلى ثورة «يناير» وتقدمت الصفوف فى «يونيو».

بدت محاولة تكميم فمها باليد أمام قصر «الاتحادية» إشارة رمزية إلى أن حكم جماعة الإخوان إلى زوال وكل شىء قد انتهى.

بالنظر إلى التاريخ المصرى الحديث فإن قصة «شاهندة مقلد» لم تولد فى «كمشيش» ولا انتهت على سرير مرض بأحد المستشفيات القاهرية.

قيمة دورها أنه يتصل عند الجذور بالحركة الوطنية الحديثة التى ولدت تحت صدمة «دنشواى» عام (١٩٠٦).

رغم أن (٦٠) سنة تفصل بين إعدام وجلد فلاحين فى «دنشواى» واغتيال «صلاح حسين» فى «كمشيش» إلا أن الجذر واحد.

فى«دنشواى» نصبت المشانق بعد محاكمات هزلية انتهكت كل قيم العدالة ‫لأربعة من الفلاحين أبرزهم «زهران» على مشهد من أهالى القرية ونال الجلد اثنى عشر آخرين.‬‬‬

‬كما تحول «زهران» إلى فكرة أبت الموت وألهمت أدباء وفنانين اكتسب «صلاح حسين» رمزية مقاربة.

الرموز فى التاريخ يصنعها ناسها بحاجتهم إلى ما يلهم العزيمة أو إرادات التغيير.

‫«‬رمزية زهران» تحولت إلى طاقة وطنية جارفة ترفض الإذلال والتنكيل بالمصريين، وكان رجلا شجاعا تقدم إلى مشنقته بلا وجل.‬‬

وقد كان دور الزعيم الوطنى الشاب «مصطفى كامل» حاسما فى بلورة مشاعر الغضب العام ووضعها فى سياق إعادة الروح للحركة الوطنية المصرية التى تراجعت بقسوة بعد هزيمة الثورة العرابية.

تحت صدمة«دنشواى» تبدت القضية الوطنية وأخذت مداها.

لم يرحم التاريخ الذين حاكموا أهلها وحكموا عليهم بالشنق والجلد، فـ«إبراهيم الهلباوى» أفضل من أنجبت المحاكم المصرية من محامين خسر سمعته وتقوضت شعبيته، و«أحمد فتحى زغلول» بدت سيرته عبئا على شقيقه الزعيم الوطنى «سعد زغلول» الذى تصدر تاليا الحركة الوطنية المصرية، و«بطرس باشا غالى» نالته الاتهامات القاسية حتى اغتياله.

بقدر آخر وفى ظروف مختلفة تحولت «رمزية صلاح حسين» إلى طاقة اجتماعية جديدة لفتت الانتباه إلى قضايا الفلاحين وحقوقهم المهدرة.

ليست مصادفة أن أغلب القيادات الفلاحية، التى تستحق هذه الصفة، تأثرت بتجربة «كمشيش» وقدرتها على بناء الكوادر الكفؤة من حقبة إلى أخرى.

ولا يشك أحد فى الدور الملهم الذى لعبته «شاهندة» فى اتصال التاريخ عند الجذور، من «دنشواى» إلى «كمشيش» إلى المستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved