ملك فى عالم تغير

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 12 مارس 2019 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل» وجاء فيه:
أخذتنى المهنة فى 1999 إلى مكتبى شابين عربيين آنذاك لمحاورتهما. كان قدر الأول قد ارتسم وقدر الثانى قيد الارتسام. اسم الأول عبدالله الثانى واسم الثانى بشار الأسد. وهما من جيل واحد، فحين ولد بشار فى 1965 كان عبدالله الثانى فى الثالثة من عمره. دخلت مكتب الشاب الأردنى فى عمان بعد توليه المصير الأردنى. ودخلت مكتب الشاب السورى فى قاسيون قبل عام من توليه المصير السورى. وأفرحنى أن تتاح لى، وللمطبوعة التى أعمل فيها، فرصة مواكبة تجربة جيل جديد من الحكام العرب. وقد اعتبر وصول الجيل الجديد يومها مناسبة لإطلاق مقاربات جديدة فى الحكم توفر قدرا من العصرنة فى السياسة والاقتصاد.
وعلى عادة الصحفيين كنت أفكر فى حجم المهام الملقاة على عاتق كل من الرجلين. ولأنَ أبناء المهنة يحبون المقارنات كنت أقول فى نفسى ما أصعب أن تكون وريثا للاعب استثنائى أقام طويلا ورسخ زعامة وكرس أساليب. كان الملك حسين بن طلال بارعا فى ممارسة مهنته الصعبة كملك. تعلَّم فن مداراة الرياح لينتقل لاحقا إلى القدرة على استشفاف اقترابها وتوفير مظلات النجاة منها. أدرك أن البلد الصغير الذى ألزمته الجغرافيا بقدر صعب يحتاج إلى صيانة دائمة فى الداخل والخارج. صيانة الاستقرار وصيانة الدور الذى يحميه والقدرة على الإيحاء أن الضمانة الأخيرة موجودة مهما عصفت الأنواء بالمركب. وكان الرئيس حافظ الأسد لاعبا ماهرا تدرب باكرا على فنون السباحة فى المياه المضطربة. يحالف موسكو ولا ينسى واشنطن. يحظر على أى لاعب أجنبى امتلاك أوراق على الملعب السورى ويتقدم لامتلاك الأوراق على ملاعب جيرانه كما الحال مع لبنان. وكان على الرجلين أن يفكرا دائما برجل ثالث صعب اسمه صدام حسين كان يعتبر نفسه موازيا لجمال عبدالناصر ومتميزا عنه بثروة النفط أيضا. والعراق أصلا جار صعب مرة حين يكون قويا وأخرى حين يكون ضعيفا. وكان صدام وحافظ الوافدان من حزب ميشال عفلق يختلفان فى كل شىء إلا فى الإعجاب بصلاح الدين الأيوبى. وكان الرئيس جلال طالبانى يعلق ضاحكا: «لدى الأكراد قائد تاريخى استثنائى اسمه صلاح الدين لكن البعث استولى عليه».
لنترك المقارنات جانبا. دخلت قبل أيام مكتب الملك عبدالله الثانى. وجدته مرتديا الزِى العسكريَ. وفهمت أنه عائد للتو من زيارة مفاجئة لإحدى الوحدات العسكرية. ولا غرابة فى الأمر. إننا فى منطقة الشرق الأوسط وهى ولادة للمفاجآت والأخطار. وإذا كان على الحاكم أن يتحسس باستمرار أرقام اقتصاد بلاده فإن عليه التأكد دائما من جهوزية جيشه. ومن الثوابت فى جيش الأردن أنه لا يستطيع الاستقالة من المصير الفلسطينى، والأمر نفسه تقريبا بالنسبة إلى المصيرين العراقى والسورى. وفى العقدين الماضيين كانت الملفات الثلاثة صعبة وشائكة.
تترك أزمات الجوار آثارها فى قلب البيت الأردنى. علاوة على الفلسطينيين الذين هجرهم الاحتلال الإسرائيلى استقبل الأردن أمواجا من العراقيين، ولا يزال نحو أربعمائة ألف منهم يقيمون فى أراضيه. واستقبل نحو مليون وأربعمائة ألف سورى لا يزيد عدد من عاد منهم إلى بلاده على 12 ألفا. أنهكت هذه الأعباء الاقتصاد الأردنى وعرضت البنية التحتية لضغوط شديدة، وكانت المساعدات الدولية أقل بكثير من الحاجات.
إطلالة «داعش» المدوية لم تكن بسيطة على الإطلاق. كان على الأردن البقاء فى استنفار دائم كى لا تتعرض حدوده للاختراق على غرار ما حصل لحدود العراق وسوريا. كان لا بدَ من الاستعداد لمواجهة هجمات «داعش» وكان لا بدَ من التصدى لجاذبيته، خصوصا حين يسعى إلى استقطاب الشباب الغاضب أو اليائس بفعل البطالة، أو الوقوع فى فخ التشدد فى منطقة كانت تشهد مناخا مذهبيا ملتهبا.
الطمأنينة نبتة لا تعيش فى تربة الشرق الأوسط. لم تبدأ الأخطار مع «داعش» ولا تنتهى بنهايته. ثم من قال إن «داعش» قد انتهى. خسرت «دولة الخلافة» وجودها على أرض العراق وسوريا، لكنها انتقلت بالكامل إلى «دولة الخلافة الافتراضية». عبر شبكات التواصل الاجتماعية والتطبيقات مثل «تلغرام» و«واتساب» وغيرها يدير «داعش» عملية مستمرة للتطويع والتدريب على القتال وصناعة المتفجرات وإصدار التوجيهات بشن العمليات. التحقيقات الأردنية أظهرت أن أعضاء «خلية الفحيص الإرهابية» الذين جاءوا من خلفية جرمية تأدلجوا عبر الإنترنت خلال شهر واحد وانتقلوا إلى التنفيذ. وقد تمكنت الأجهزة الأردنية من قتل ثلاثة منهم واعتقال الباقين فى غضون أقل من 24 ساعة. ثم إن انحسار «داعش» يترافق مع إطلالة جديدة لـ«القاعدة»، خصوصا لتنظيم «حراس الدين» الذى ولد على الساحة السورية فى فبراير 2018 من عناصر من «القاعدة» كانوا مع أبو مصعب الزرقاوى، ويقال إن تعليمات أيمن الظواهرى تصل إليهم عبر سيف العدل المقيم فى إيران.
بعد عقدين من توليه مهامه يدرك عبدالله الثانى أنه ملك فى عالم تغير وفى منطقة تتغير. عراق اليوم لا يشبه أبدا ذاك الذى كان قائما عشية القرن الحالى. ويكاد الأمر نفسه ينطبق على سوريا. والميليشيات الإيرانية تقيم قرب حدود الأردن عبر الخريطتين العراقية والسورية. وأفق السلام مسدود و«صفقة القرن» لن تعثر على توقيع فلسطينى.
فى هذه المناخات الصعبة يواصل عبدالله الثانى مهمة صيانة الاستقرار والكيان والدور. علاقته الوثيقة بأمريكا على تبدل الإدارات ثابتة، خصوصا فى ضوء قدرته على مخاطبة الكونجرس ومعرفته بقوانين اللعبة هناك. أسعفته فى الأزمة السورية علاقة قوية سابقة مع جار جديد اسمه فلاديمير بوتين، خصوصا فيما يتعلق بالوضع فى الجنوب السورى. وفى الداخل حيث يصطاد المغردون كل تقصير أو فساد يواصل الملك الحوار مع السياسيين والأحزاب والنقابات والإعلاميين والناشطين. وخير دليل أن مغردين كانوا بين من شملتهم جلسات الحوار الدورى المفتوح فى بلد يعاند رغم قلة إمكاناته الاقتصادية للحفاظ على استقراره، ولا يتردد فى اتخاذ القرارات المؤلمة لإنقاذ اقتصاده.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved