سقوط العروبة: يأخذ العرب إلى التيه

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 11 نوفمبر 2015 - 12:35 ص بتوقيت القاهرة

فجأة، ومن دون إنذار مسبق سقطت «الأمة العربية» من اللغة السياسية الراهنة وعادت إلى موقع ما بين «الأسطورة«و «الحلم».
فجأة، ومن دون مقدمات أو تبريرات مقنعة، صار استخدام تعبير «الوطن العربى» ضرباَ من المغامرة أو هربا من الواقع إلى التمنى.
فجأة، اختفى «العرب» عن خارطة الدنيا وتحولوا إلى شعوب شتى فيها اكثريات طائفية أو مذهبية وأقليات دينية أو عرقية، صاروا رعايا بلا هوية جامعة، تنتظر كل رعية منهم حاميا خارجيا يؤمنها من مخاطر انتمائها الوطنى والقومى الذى بات يهددها فى وجودها.
سقطت الوطنية والقومية تحت جنازير الدبابات المحلية أو بقذائف الطيران الأجنبى الوافد ــ باستدعاء صريح ــ لنجدة الأنظمة التى فقدت غطاءها الفكرى ــ السياسى التى كان يبرر شكلا، استيلاءها على السلطة من خارج الإرادة الشعبية أو عبر تزويرها بالأمر.
صارت «العروبة» تهمة تكاد توازى الخروج من الوطن، الذى بات الآن بلا هويـــة جامعة، وعليه... بل لقد تحولت إلى عنوان للتخلف والفرقة والتنافر إلى حد إشاعة مناخ الحرب الأهلية.

***
وُضع الانتماء الطائفى والمذهبى فى مواجهة الانتماء القومى بل والوطنى (المحلى)..
استعيدت هويات ما قبل التاريخ: الفرعونية، الفينيقية، السريانية، الأشورية، الكرد مع التفريق بينهم على قاعدة مذهبية..
صارت كل دولة عربية أشتاتا من الأعراق والأديان اللاغية للهوية الوطنية فضلا عن «الرابط القومى» إلى العروبة.
... كأنما الأميركيون، مثلا أو البريطانيون أو الفرنسيون أو الإيرانيون أو الأتراك يتحدرون من عرق واحد ويشكلون كتلة صماء لا تمايز بين أفرادها فى الدين أو العرق أو اللون أو هويات ما قبل الدولة الموحدة.
تجاوز تحقير الانتماء القومى من توصيف العرب بأنهم «ظاهرة صوتية» إلى الادعاء بأن ما يجمع بينهم خليط من الخرافات والتمنيات والطموح السياسى، لا شىء يربط بين أشتاتهم: لا الهوية ولا الدين، لا الأرض ولا الواقع السياسى ولا هم الغد والمصير. لا الماضى ولا الحاضر خاصة، فكيف بالمستقبل إذا كان صراع الهويات يلغى وحدتهم وأهداف نضالهم التاريخى وحلمهم الدائم فى دولة واحدة، لا فرق بين أن تكون فيدرالية أو كونفيدرالية.
فى سياق هذه الحرب العربية ــ الدولية على العروبة لجأت بعض الأنظمة العربية التى ترفع الشعار الإسلامى إلى مقاتلة العروبة باعتبارها «رجسا من عمل الشيطان» وخيانة للدين الحنيف، وكادت تخرج دعاتها من الإسلام... ثمَ إنها اندفعت فى طلب الحماية من «الخارج» غير المسلم و«تحالفت» مع دوله بالقيادة الأميركية ضد أهلها العرب وضد العروبة كهوية جامعة

***
هكذا فرض على دعاة العروبة أن يخوضوا معارك عدة فى آن معا: ضد «الانعزاليين» والكيانيين من المتنكرين لعروبتهم فى الداخل والمتعاونين مع الأجنبى لمحاربتها باعتبارها خطرا على «كياناتهم» و«إقليميتهم» التى لم تجد غضاضة فى التحالف مع أمريكا (البروتستانتية)، أو فى مهادنة العدو الإسرائيلى متذرعة بأن «اليهود أهل الكتاب».. كأنما المعركة مع الاحتلال الإسرائيلى لاستنقاد فلسطين كلها إن أمكن، أو بعضها لأهلها الذين كانوا على الدوام أهلها هـــــى «حرب دينية». ومفهوم أن طمس الهوية السياسية للمعركة ضد إسرائيل، ومحاولة تغليب العوامل الدينية على طبيعة المواجهة بين محتل غاصب الأرض، مشرد أهلها، وهى مواجهة سياسية أولا وأخيرا، يرتبط بها تأكيد حق الشعب الفلسطينى فى أرضه وتحرير الإرادة سعيا إلى تحقيق الغد الأفضل فوق هذه الأرض، بهويتها العربية، وبطموح أهلها إلى الحرية والعدالــة والتقدم.
وفى سياق هذه الحرب على العروبة تمت تغذية الكيانية أو الإقليمية أو حتى الجهوية، فصار القول بالوحدة العربية أو بالاتحاد أو حتى بالتكامل الاقتصادى العربى، بمثابة «الخيانة».. ولقد شهدت عواصم عربية عدة محكمات لدعاة الوحدة العربية بوصفهم «خوارج» معادين للسيادة والاستقلال ومهددين للوحدة الوطنية فى «قطرهم» الذى أسبغت على كيانه قداسة مزيفة عززت قوات حماية الكيان بالقوات المسلحة وبات من يتجاوزها فى حكم الخائن.
لا يمكن فى هذا السياق إغفال الأثر المدمر لغياب مصر عن دورها القيادى، وهو استحقاق تاريخى وانسانى فضلا عن كونه طموحا مشروعا لأكبر الدول العربية وأغناها ثقافة وجدارة... وكان من نتائج هذا الغياب أن اصطرعت دول عربية عدة على الدور القيادى للأمة، دمشق بدورها الريادى فى بعث الفكر القومى عبر حزب جامع – أقله بشعاراته – بين الوحدة العربية والحرية الاشتراكية، ثمَ بغداد التى استنسخت من «البعث» حزبا يحمل الشعارات ذاتها ولكنه يؤكد جدارة العراق بالقيادة بديلا من دمشق.
فى حرب البعثين وجدت الأنظمة الملكية أو شبه الملكية فرصة للتنفس والمناورة...

***
ولقد استنزفت الحرب على إيران، العراق، ومعه دول الخليج، عسكريا واقتصاديا.
وكان أن حاول صدام حسين الانتقام من الخليجيين فشنَ غزوة الكويت، التى احتلها بلا قتال، تقريبا، لأن حملته العسكرية جاءت من خارج التوقع.. وهكذا وفرَ للأميركيين الفرصة المثلى لتدمير أقوى جيش عربى (العراق) ولاستنزاف أقطار الخليج ماديا، ولتعميق الانقسام بين الدول العربية، خصوصا وقد شارك بعضها (مصر وسوريا والمغرب) فى الحرب على العراق تحت الراية الأمريكية تمَ تدمير العراق، وكان بديهيا أن تتقدم القوات الأمريكية فتستولى على بغداد.
قبل ذلك بسنوات قليلة كانت قد سقطت تجربة حركة القوميين العرب فى حكم اليمن الجنوبى.. إذ سرعان ما بدلت السلطة المناضلين الذين لم يجدوا من يدعمهم ويحميهم إلا الاتحاد السوفييتى فغادروا القومية إلى الشيوعية لينتهوا بعد سقوط الشيوعية فى موسكو إلى حكم لكيان هزيل القدرات اقتصاديا، مما أجبرهم على قبول الوحدة مع الشمال (صنعاء) بعد حربين منهكتين عززت الانقسام بين اليمنيين.
يمكن القول إن خروج مصر من موقعها الطبيعى ودورها الذى لا بديل منها فيه، ابتداء من معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلى، قد سرع عملية التباعد حتى الانفصال بل وحتى العداء وربما الحرب بين العديد من الدول العربية .
الأخطر أن هذا الخروج قد أفقد العرب مركز قيادتهم، ومرجعيتهم السياسية والفكرية والثقافية.. فتصاغر «الكبير» أدى إلى تضخم «الصغار» الذين أغرتهم ثرواتهم بالتقدم نحو موقع القيادة، بشىء من الخوف والتردد بداية، فلما تفجرت سوريا بالحرب فيها وعليها، تقدموا غير هيابين، وباتوا يشعرون بالقدرة والأهلية لأن يقرروا فى شئون الدول – القادة التى طالما كانوا يتطلعون إليها: ففى غياب مصـر، ثمَ العــراق، وأخيرا ســوريا (من دون أن ننســــى ليبيا القذافى التى دخلت مع اغتياله الوحشى فى حرب أهلية لا تنتهي) ومع الغياب الدائم وغير المفهوم للجزائر، خلا الجو لدول النفط العربية... وهكذا تصدرت قطر المسيرة المضادة، قبل أن تتقارب دول الخليج تحت القيادة السعودية، وأن تحتفظ لنفسها بحق الأمرة: فتسعر الحرب على سوريا ثمَ تطلق أسطولها الجوى لتدمير اليمن، وتحاصر مصر باحتياجها إلى المال للنهوض من كبوتها الاقتصادية، وتعطل الحياة السياسية فى لبنان، وتستدرج السودان إلى بيت الطاعة، وتموَل الاقتتال فى ليبيا، وتباشر فتح النوافذ – ولو جانبيا – مع العدو الإسرائيلى:
إنها لوحة سوداء للواقع العربى...
وهى مرشحة لأن تزداد سوادا، عبر تمزق الكيانات القائمة، وتفاقم مخاطر الحروب الأهلية.
... فى انتظار أن ينتبه العرب، بطلائعهم، إلى واقعهم المأساوى الذى يكاد يذهب بغدهم بعد حاضرهم.
والبداية دائما فى مصر وانطلاقا منها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved