حوار بين الجد والهزل على هامش مأساة اليمن: عندما تصير الدولة رجلًا فردًا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 11 نوفمبر 2009 - 10:09 ص بتوقيت القاهرة

 فى لقاء مع الرئيس اليمنى على عبدالله صالح، قبل سنوات، توجهت إليه بسؤال جاد أوحت به «صلاحياته» المفتوحة على نواحى الحياة جميعا فى اليمن السعيد:
هل أنت الخليفة، أمير المؤمنين، الرئيس القائد، شيخ القبيلة، الملك، صاحب الزمان، الآمر الناهى، مالك القرار فى كل الشئون؟.

ورد الرئيس الآتى بانقلاب عسكرى من رتبة بسيطة فى الجيش: أنا كل أولئك معا! ضحك وضحكنا، لكنه كان ضحكا مرا..

اليوم، واليمن تمور بالاضطرابات التى تهدد وحدة الدولة والشعب فيها، وتتمدد بالحرب إلى جارتها السعودية، يصبح القلق مشروعا على مصير هذا البلد العربى الذى أعادت الثورة على حكم الإمامة فى 26 سبتمبر 1962 استيلاده كدولة، ثم تعززت هذه الدولة بالوحدة بين شماله وجنوبه بعد تجربة حزينة وفاشلة كلفت اليمنيين بحرا من دمائهم وخسارة فادحة فى الزمن الذى يحتاجونه لكى يعودوا إلى العصر.

إن الدولة التى بنتها ثورتان: فى شمالها ضد حكم الجاهلية وفى جنوبها ضد الاحتلال البريطانى، تبدو مهددة بالتفكك والتبعثر دويلات أو جهات أو مشيخات قبلية أو محميات تتقاسمها قوى أجنبية مع «القاعدة» وأصوليات أخرى، مع كل ما ينجم من هذا التفكك على محيط اليمن، وبالتحديد على السعودية التى تشدها الفوضى المسلحة إلى التورط فى حرب مفتوحة ضد قبائل وعشائر لم تعرف يوما الحدود لتعترف بها، لأنها كانت عبر التاريخ تتجاوزها بالامتداد السابق على قيام الدول.

لقد تهاوت كل «المؤسسات» التى استولدها الحاكم الفرد على عجل، فعجزت عن وقف الانهيار، بل لعل بناءها الهش والمصطنع قد أعاد الاعتبار إلى الواقع الصلب للتكوين القبلى الذى تثبت الوقائع الميدانية أنه أقوى من طائرات الميج اليمنية روسية الصنع أو الإف 16 السعودية الأمريكية الصنع.

على أن موضوعنا ليس حرب اليمن مع احتمال تمددها إلى السعودية، وليس استجلاء أمر «الحوثيين» من هم، وحقيقة ما أشيع عن تشيعهم أم ثباتهم على مذهبهم الزيدى، بل إنه مصير جمهورية اليمن (التى كانت عربية فأمر الحاكم الفرد بشطب الهوية من الاسم لأمر لا يعرفه غيره!).


إن مصير اليمن، فى هذه اللحظة، يرتبط بمصير رئيسها الفرد الذى تولى بنفسه بناء «مؤسسات» الحكم عسكرية ومدنية، وكذلك «المؤسسات الشعبية» فعهد بها إلى أفراد عائلته وأصهاره وأبناء عشيرته و«حلفائها» عموما، فصار هو الدولة والدولة هو، وصارت سلامته شخصيا عنوان سلامة الدولة، فإن ضعف أو مرض أو أصابه العجز أو تعرض لأى حادث دخلت اليمن نفقا مظلما قد لا تخرج منه إلا مزقا.

خطورة الأمر أن هذه الحالة ليست قائمة فى اليمن فقط، بل هى تكاد تكون القاعدة فى معظم «الدول» العربية، فالرئيس ــ الملك ــ الأمير ــ الشيخ (وقبيلته التى قد تموه ذاتها أحيانا باسم حزب) يختصر «الدولة» بشخصه، إن أصابه داء اعتلت وإن جاءته الوفاة تهدد وجودها بالانهيار.

قبل اليمن كان صدام حسين قد اختصر العراق بشخصه، وحصر القرار فيه، فكان هو وحده ولى أمر الثلاثين مليونا من العراقيين، ما يقرره يكون: وهكذا خاض حروبا مدمرة لحساب طموحاته كما لحساب الغير ذهبت بكيان العراق وثرواته الهائلة، وجاءته بالاحتلال الأمريكى فشردت شعبه قبل أن تفتح أمامه أبواب جهنم بالحرب الأهلية التى تعددت وجوهها، فكانت مرة عرقية، ومرة عنصرية، ومرارا طائفية ومذهبية كادت تفرغه من المسيحيين (آشوريين وكلدانا، وهم بعض الأصل فى شعبه) ثم أدخلت العرب فى حرب مفتوحة على السلطة مموهة بصراع مفتعل ومغذى من الخارج بين السنة والشيعة.

قبل أن نتحدث عن الدول المجاورة وتناقضات المصالح بينها، وتقاطع هذه المصالح مع ما يخدم أهداف الاحتلال الأمريكى، وأخطرها التغلغل الإسرائيلى الذى وجد المدى مفتوحا فلم يتأخر عن التغلغل المنظم فى الشمال (الكردى) كما، حيثما أمكنه ذلك فى الجهات والطوائف جميعا.

بعد العراق ومعه، وجنبا إلى جنب مع اليمن، تتكرر التجربة المرة فى السودان، إذ يتماهى الحاكم ــ السلطان ــ الخليفة ــ مع النظام ومع الدولة فيصبح أى تهديد بسقوطه تهديدا للدولة بالتمزق فى أتون الحرب الأهلية، واندثار الوطن.

إن النظام العربى يكاد يجبر رعاياه فى العديد من الدول على خيار مر بينه وبين الحرب الأهلية: إن تحرك الشعب معارضا أو معترضا، مطالبا بالدستور ــ مثلا ــ أو بحكم القانون، بالعدالة الاجتماعية والرغيف، بحقه فى العلم والتقدم.. إلخ، اتهم فى وطنيته وحوكم بوصفه مثيرا للشغب وخارجا على الإرادة التى لا ترد لصاحب الأمر.

الحاكم هو النظام.. والنظام هو الدولة.. والدولة لصاحب الدولة، فإن مسه ضرر أو استرد الله وديعته تهددت الدولة فى وجودها وتزلزل الكيان وتعرض مصير الوطن لخطر قد يذهب به.

آخر النماذج المعروضة أمام العالم كله عن توحد المصير بين صاحب السلطة ومشروع الوطن، يتمثل فى القرار المعلن لمحمود عباس بالاستقالة من بعض مناصبه أو رئاساته وهى عديدة: رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، رئيس المجلس المركزى لقيادة حركة فتح، رئيس دولة فلسطين (التى لاتزال فى ضمير الغيب، رهينة الإرادة الأمريكية المرتهنة للإرادة الإسرائيلية).

فجأة انتبه شعب فلسطين إلى أن مثل هذا القرار الفردى إنما يهدد قضيته جميعا بخطر جدى، لأن السيد الرئيس ــ أى «الفرد» ــ إنما يختزل كل مؤسساته، فإن هو ذهب، لسبب أو لآخر، تعطلت جميعا، من دون أن يكون ثمة بديل جاهز يؤمن استمرارية المؤسسات ويحمى «القضية» من خطر إضافى يتهددها فى صميمها، إذ انه يفتح أبواب جهنم أمام هذا الشعب المنتشر بين الداخل وداخل الداخل، والداخل دواخل وبين الخارج والخارج دولا ومصالح، وبين هويات مؤقتة وهويات مستعارة توزعه بين «لاجئين وعائدين» ومشردين فى ديار الشتات.


نتحدث هنا عن موقع الحاكم فى النظام العربى بوصفه شأنا داخليا. لكنه فى حقيقة أمره ليس كذلك: إنه شأن دولى بامتياز.

لنضع جانبا موضع الخدع الديمقراطية التى توفر قدرا من الشرعية الشكلية لأى نظام قائم فى هذه الدنيا العربية الواسعة.. فالنظام فى آخر المطاف ينتهى برأس.

وللدول حق الرأى (وغالبا حق القرار) فى هذا النظام، وبالذات فى رأسه: فهو إما أن يكون مقبولا فيتم التعامل معه، وإما أن يكون مرفوضا فيمنع من الوصول بطرق شتى، فإذا ما وصل فرض عليه الحصار فصار كالوباء يتجنبه الجميع حتى لا تحل عليهم اللعنة!

حتى لا ننكأ الجراح العربية سنكتفى بشاهد من جوار دنيا العرب تابعنا معركته «الديمقراطية» التى تدار بقرار معلن للاحتلال الأمريكى هو «الرئيس» الأفغانى حميد كرزاى.

لقد قرر الاحتلال إجراء انتخابات رئاسية فى بلاد مضطربة، تدور فيها رحى حرب بين جيوشه الأجنبية المتحالفة، وبين قوى أساسية من الشعب الأفغانى الذى لم يعرف الاستقرار منذ عقود.

استقدم الاحتلال الأمريكى الأمم المتحدة باعتبارها شاهد الزور الذى يعمل فى خدمته، ومعها بعض الهيئات والمنظمات غير الحكومية (وهى فى الغالب الأعم مشبوهة بمصادر تمويلها كما بمآل تقاريرها ودراساتها التى تذهب إلى الخارج لتكشف الداخل).. واستخدم حواماته والبغال والحمير لنقل الصناديق البلاستيكية الضامنة للديمقراطية.

وليستكمل المشهد الديمقراطى دفع بمنافس مرضى عنه ومأمون كما الرئيس ــ المرشح لترشيح نفسه، فغدا شريكا فى اللعبة، وقبل إعلان النتائج جرت المساومة لإخراجه بترضية مقبولة، ولكنه أصر على «حقه» فى الأصوات التى نالها! وكان لابد للاحتلال من أن يستخدم «العرض الذى لا يمكنه رفضه» فأخرج نفسه من الميدان (حيا).. تاركا الرئاسة لمن اختاره الاحتلال ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الأفغانى الذى يكتب تاريخ بلاده ذات الجبال بدمائه.

وهكذا «انتصرت» الديمقراطية وصار مصير أفغانستان معلقا على هذا «الرئيس» الديمقراطى فى شرعية انتخابه وتمثيله لشعبه.

صار كرزاى هو أفغانستان، إن هو ذهب تهدد الاحتلال ولحق بأفغانستان المزيد من التدمير والقتل بالمجازر الجماعية ترتكبها الطائرات الحربية وجميع أنواع أسلحة الإبادة البرية نصرة لديمقراطية الاحتلال.

كرزاى هو الممثل الشرعى الوحيد لشعب أفغانستان بقوة الدبابات الأمريكية والطائرات الحربية والحوامات.

ومحمود عباس هو الممثل الشرعى الوحيد لشعب فلسطين، إن هو استقال أو أقيل، اعتل أو حانت ساعته، ذهبت السلطة، بل وتهدد المشروع الوطنى الفلسطينى بمؤسسات منظمة التحرير الوطنى التى استولدها الجهاد ودماء الشهداء وأوجاع الشعب الذى شرده الاحتلال الإسرائيلى.

وعلى عبدالله صالح هو الممثل الشرعى الوحيد لشعب اليمن، حتى لو كانت سلطته وبالتالى نظامه هو المتسبب فى مجمل المشكلات والأزمات المصيرية التى تعانى منها هذه الجمهورية التى قامت بدماء اليمنيين ونضالاتهم المشهودة خلال عقود طويلة، قدم خلالها آلافا مؤلفة من الشهداء، فى شماله والجنوب،

والسودان مهدد فى وحدته، وبالتالى فى كيانه السياسى، لكن النظام الحاكم يواصل مسيرته الظافرة عبر الحروب الأهلية المشتعلة فى معظم أرجائه أو الموشكة على الاشتعال.
والعراق مجهول المصير، وضع الاحتلال الأمريكى يده على مصادر ثروته (النفط) وحرض العراقيين بعضهم ضد البعض الآخر، محركا كوامن الأحقاد العنصرية وأسباب الفتنة الطائفية، فاتحا الباب لتدخل الدول جميعا.
لكأنما النظام، فى معظم الأرض العربية، يهدد شعبه: أنا أو الوطن!

ولا خيار.. إذ قد يسقط الوطن بسقوط النظام الذى يفرغ الدولة من أى مضمون، ويربط مصير الوطن بسلامته الشخصية فوق قمة النظام بينما «فروعه» تمسك بمفاصل القرار، وغالبا بحماية الأجنبى ــ محتلا أو هيمنة بالنفوذ ــ بينما لا تكف أجهزة الإعلام عن إطلاق الأناشيد والأغانى التى تؤكد على مدى الساعة شعار لويس الرابع عشر الذى وجد الآن ترجمته العربية: أنا الدولة!

..اللهم إننا لا نسألك رد القضاء، ولكن اللطف فيه!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved