ماضينا يلاحقنا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

أوطان مهددة بالانكسار وأمم تعرضت للانفراط وأحلام أجهضت. هذه كانت حصيلة أسبوع من القراءة والاستماع والنقاش ثم الاختلاء بالنفس للفهم وتكوين رأى. عشت قبل هذا الأسبوع شهورا أطرد استنتاجات غير بهيجة. رأيت العالم يستعيد بخطى حثيثة وبإصرار أفكارا وتقاليد أزمنة خلت وراحت وكان الأمل حتى زمن قريب ألا تعود. فى البداية ظلمت ناحيتنا التى نسكنها فى هذا العالم ويطلقون عليها الشرق الأوسط. هيمنت على تفكيرى حقيقة أن الأديان السماوية وما شابهها نزلت هنا. نزلت وهاجرت وسكنت واستقرت وانتشرت وفى كل أحوالها كانت عنيدة فى ابتكار كل ما يغذى جذورها ويحافظ على ما كسبت من أراضٍ وبشر. تفوقت على نفسها فى كفاءة صنع إنسان جاهز لاعتناقها والدفاع عنها. النتيجة لدينا إقليم ببشر مستعدين للتضحية بأشياء كثيرة، منها أرواحهم، من أجل أن تستمر هذه الأديان أو ما وصلهم منها، ومن أزمنتها، تستمر مهيمنة ومتمكنة.
***
فى عام واحد رأينا الماضى يبعث حيا فى مواقع عديدة من العالم. كنا حتى عهد قريب وأقصد تحديدا السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى نزهو أمام أولادنا بعولمة حققناها سوف تنقلنا حتما إلى أزمنة فى المستقبل تختلف جذريا وكليا عن زمن نعيشه وأزمنة عاشها الآباء والأجداد. لم ندرك وقتها لحسن نياتنا وانبهارنا بما يبيته العلم لنا وللتكنولوجيا وبالطاقة الفريدة التى حركت ملايين البشر لينتقلوا من قارات إلى قارات أخرى وأخرجت إلينا الصين الجديدة ومعها وعد أن تصير قوة عظمى فى سنوات معدودة، وبالفعل صارت، لم ندرك وقتها أن هذه العولمة تأتى وفى ركابها أمواج عاتية تحمل أزمنة، كان الظن كما قلت إنها خلت وراحت ولن تعود. رأيناها فى منطقتنا، وأقصد الأمواج، كاسحة. رأيناها تمحو أمام أعيننا عقودا من الثقة بالنفس والمستقبل. رأيناها تخرب المؤسسات العلمية ومناهج التعليم وتغلق مراكز البحث أو تقصر أنشطتها على اللغو الفارغ وتمجيد غزوات الأولين.
رأينا ما هو أخطر وأقسى على النفوس الحالمة. كنا ولا نزال شهودا على صحوة فى ممارسة تقاليد الصراعات القبلية. بدا غير معقول هذا النزوع الجماعى من مجتمعات حققت فى بدايات الاستقلال بعض التكامل أو حتى الاندماج إلى ممارسات ومؤسسات وصدامات تعيد أمجاد الطائفية، طائفيات أكثرها نشأ وترعرع فى أحضان إمبراطورية تحكمها سلالة متخلفة، ويعمق تخلفها استعمار غربى مستفيد من التدهور الثقافى والاجتماعى فى الإقليم. غير معقول ولا مقبول أن تعود أغلب شعوبنا لتنغمس فى حروبها الأهلية وتنشغل بفساد حكامها وانفراط وحدتها. ليس مقبولا أن تتخلى هذه الشعوب وجمعياتها العلمية وجامعاتها ومؤسساتها عن طرق سلكت فيها مسافات طيبة نحو أزمنة المستقبل لتعود فتسلك طرقا التفافية وبالية أو تمشى فى الاتجاه المعاكس، اتجاه أزمنة غابرة ومسالك مظلمة. الاستثناءات قليلة وغير فاعلة أو قادرة على وقف هذا النزوع الخبيث. اكتئب وأنا أرى ما يفعله بلبنان هذه الأيام، بل وكل الأيام، قادة طوائفه. هم أنفسهم قادة طوائف ومشاريع تجارة ونفوذ وفى الوقت نفسه قباطنة حكم فى قارب يوشك على الغرق. اكتئب أكثر لما يحدث فى اليمن والعراق وليبيا وما قد يحدث فى الجزائر وتونس والمغرب إن حل التعب بشعوبها. أكتئب أكثر وأكثر وأنا أتابع كل القلق المختزن وبعضه متفجر فى إقليم كان يحمل، باسم مجلس التعاون الخليجى، إلى كل العرب وحتى عهد قريب رسائل تكامل ووحدة وتناغم، رسائل عن بعض معالم أزمنة قادمة. ضاعت الرسائل فى هوجة الصراخ وأزيز الطائرات والصواريخ المسيرة. تفرقنا تشبها بصفحات مؤلمة فى تاريخنا. لسنا وحدنا على كل حال.
لسنا وحدنا. واضح لنا الآن أن الماضى يبعث حيا فى كثير من بقاع العالم. نرى أوروبيين فى حال فزع من احتمال عودة الفاشيات فى ثياب جديدة ومن خلال صناديق الانتخاب كما سبق وفعلت. حدث هذا فى مرحلة هى الأشبه بين كل مراحل التاريخ الحديث إلى المرحلة الراهنة فى السياسة الدولية. نرى بريطانيين عقلاء فى حال فزع. يخشون أن سياسيين جددا بخبرة منعدمة فى السياسة ورصيد هائل من الغباء والاستهتار قد يتسببون فى إعادة التقتيل والدمار إلى شوارع إيرلندا الشمالية إن أصروا على الخروج من الاتحاد الأوروبى بدون اتفاق. لا أظن أن بين أعضاء مجلس العموم من يستطيع أن يزعم أنه شهد فى حياته السياسية عهدا أو سمع عن عهد اهتزت فيه صورة الديمقراطية فى بريطانيا إلى هذا الحد. الأدهى بالنسبة للسياسة الدولية هو ما أصاب مكانة بريطانيا الدولية كقوة كان يحسب لها حساب وإن متناقصا.
هزنا بعنف ما وقع بالهند ابتداء من فوز ناريندرا مودى وحزبه الدينى المتطرف بأغلبية ساحقة فى الانتخابات العامة ومرورا بالتعبئة الدينية وبعث الثقافة التقليدية ومطاردة إرث مرحلة الإمبراطورية الإسلامية فى التاريخ الهندى وانتهاء بالانقلاب الدستورى على قواعد الحكم فى ولاية كشمير الإسلامية. هكذا تعود الهند بسمعتها العلمانية المتطورة والقابلة للتعامل مع تعددية فريدة فى الهند إلى سمعة الديانة الوحيدة المهيمنة والثقافة الأصيلة الوحيدة ونشر الحقد بين غلاة المتطرفين الهندوس وجماهير الأقلية المسلمة. عادت إلى الهند بؤر التوتر العرقى والطائفى فى أقاليم ساد فيها كثير من الوئام خلال مرحلة النهضة الثقافية والتربوية، عاد التوتر إلى آسام والبنغال ومناطق الحدود مع الصين وباكستان وميانمار ومواقع التداخل المكثف للهندوس والمسلمين.
بعيدا بعيدا وفى شرق آسيا تحديدا ينطبق المثل المصرى الشائع «الحال من بعضه». واقع الأمر هناك أن «الماضى اللئيم»، رغم كل التطورات التى وقعت هناك على امتداد ثلاثة أرباع قرن، لم يحمل عصاه ويرحل. اكتشفنا، على العكس، أنه بكامل نشاطه وعنفوانه عندما يستدعى. رأيت، فى أوائل سنوات حكم الثورة الماوية كيف كانت تفاصيل سنوات الصدامات الدموية وعذابات الشعب أثناء حكم اليابان لمنشوريا وحرب التحرير تذاع على الناس، ونحن بينهم، فى محطات القطارات وعلى طول رحلاتها، ومع النشيد الوطنى كل صباح فى المدارس، ومع استراحة شرب الشاى بين نوبات العمل فى المصانع. وقتها توقعت أن يتفاقم بفعل فاعل الكره الشديد المقيم فى نفوس الصينيين ضد الشعب اليابانى وليس فقط ضد حكم الفاشية العسكرية التى حكمت الإمبراطورية اليابانية حتى نشوب الحرب العالمية الثانية. بالفعل حدث ويحدث ما توقعت.
حدث أيضا ويحدث بين الشعب الكورى فى شمال كوريا الشيوعى وجنوبه الرأسمالى من ناحية وشعب اليابان وحكوماته من ناحية أخرى. مرت سنوات عديدة ولم ينس الكوريون قسوة الجيش اليابانى أثناء احتلاله شبه جزيرة كوريا قبل وخلال الحرب العالمية. حصلوا على الاعتذار الواجب ولم ينسوا. الآن يذكرونه ومعه حقوق آلاف الكوريات والكوريين الذين سخرهم اليابانيون للعمل فى المصانع والمزارع اليابانية أو للترفيه عن الجنود اليابانيين. ترفض حكومة اليابان أن تقدم اعتذارات صاغ كلماتها وقدر أرقام تعويضاتها منظمات قومية كورية، ويرفض الكوريون استمرار تعالى اليابانيين وتكبرهم فيفرضون الحظر التجارى والمقاطعة الشعبية.
لا شك أن الجغرافيا السياسية لمنطقة شرق آسيا سوف تشهد تغييرا مهما فى السنوات القليلة القادمة ولا أبالغ إن قلت إن الماضى سوف يكون لاعبا أساسيا فى هذا التغيير. اليابان، كما نعرف، أصبحت مؤخرا هدفا سهلا للابتزاز الاقتصادى والعسكرى من جانب جهات متعددة. فى هذا الصدد أثار اهتمامنا الجهود الروسية الساعية لإنشاء جماعة دفاعية وتسليحية إلى جانب جماعات أخرى اقتصادية وسياسية وتعاونية لدول شرق آسيا. هذه التسميات هى فقط للتعمية على عنوان آخر لمجموعة هذه الجماعات، أول ما يخطر على الذهن عنوانا لهذه المجموعة، العنوان التالى «حلف آسيا والباسيفيكى» ردا على الحلف الأمريكى بعنوان حلف الاندو باسيفيكى والجارى تنظيمه الآن. الروس وهم يتأهبون لقيادة هذا الحلف لن ينسوا هزيمتهم فى مطلع القرن الماضى على أيدى اليابانيين، ولن ينسى اليابانيون أرضا عزيزة عليهم اقتطعها الروس بعد الحرب العالمية الثانية، والصينيون معبأون بروح الانتقام من اليابانيين وكذلك الكوريون.
كثيرون استفادوا من النزاعات الدولية ذوات هذا النوع من الماضى غير البسيط. تردد فى الأنباء أن الرئيس ترامب اعتذر عن التوسط فى النزاعات بين العرب بحجة أنه لا وقت لديه. لم يقل الحقيقة، وهذه عادته على كل حال. الحقيقة أنه مستفيد، ولا أبالغ إن أضفت أنه ربما كلف مساعديه بالعمل على تعميق الخلافات والبحث فى الماضى عن أسباب لهذه النزاعات أكثر وأعمق. لا نية سيئة أو مؤامرة، هى السياسة ومصالحها لا أكثر ولا أقل. ألم ندرك بعد الفائدة العظيمة التى عادت على حكام إسرائيل من حسن استغلال وتعميق جذور الصراع بين اليهود والعرب وبينهم وشعوب أوروبا وبينهم وأمم الأمم المتحدة. وفى ظنى أن حكومة نتنياهو بذلت فوق طاقتها لتؤجج نيران العداء للسامية فى بعض مجتمعات الغرب خلال السنوات الأخيرة، آخره الحملة المنظمة ضد رئيس حزب العمال ومجموعة من قادة الحزب. إسرائيل استفادت من ماضى اليهود كما لم تستفد دولة معاصرة من تاريخ شعبها، وستعيش فى ظل أى سلام قادم أو حروب إقليمية قادمة مستفيدة من هذا الماضى لتحتفظ بيهوديتها متجددة ومهيمنة. إسرائيل ليست الدولة الوحيدة المستفيدة من الماضى ولكنها الأكفأ بدون شك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved