غسان توينى: الذى كتب «نهاره» بحبر من نور

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الإثنين 11 يونيو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

من زمان غادر غسان توينى اليوم ليستقر فى الغد.

 

لا يسكن الأمس من كتب، على امتداد ستين سنة، بحبر من نور، وأحيانا من دم، افتتاحيات تساعد على تحديد الطريق إلى المستقبل.

 

ولا يغيب الموت من انتصر على وجع الفقد، مرارا، وأكمل الطريق وقد ازداد حكمة، فتعالى على الجراح، وأسقط شهوة الانتقام، مناديا الناس إلى حماية الوطن بدم شهيده شهيد «النهار» والصحافة العربية جبران توينى.

 

●●●

 

جعل غسان توينى من قلمه سيفا يشق قلب الخطأ، وأنار الوجدان بالرأى، ولو مختلفا عن السائد، متقبلا الرأى الآخر من موقع المحاور لا الخصم محتفظا بالعداء للعدو الذى لا عدو غيره: إسرائيل.

 

واجه الطغيان بشجاعة الفارس، وحول السجن إلى منصة لإدانة الجلاد، ومنارة لكشف مكامن الخطأ ومرتكبى الخطايا.

 

من العرب العاربة هو، نسبا، يباهى بأهله الغساسنة اليمنيين وسائر أبناء الجزيرة والخليج لأن «قبيلته» هى الأعرق، من دون أن يسمح للكيانيين من اللبنانيين بأن يذهبوا إلى معاداة العروبة وكأنها مصدر الخطر على لبنان وهى هويته... ربما لهذا ظل يميز دائما بين الموقف السياسى من نظام حكم ديكتاتورى وبين تأكيد الانتماء للأرض والتاريخ وحقائق الحياة.

 

وقف ضد الحكم العسكرى، فى لبنان كما فى أى بلد عربى آخر، لأنه ديمقراطى بالتكوين ثم بالدور وبالموقع: فهو رجل فكر وليست الصحافة ميليشيا تغتال العقائد والأفكار! وكيف يستطيع المتعصب ادعاء الوطنية إذا ما جعلها كيانية مغلقة على الاخوة منفتحة على الأجنبى، متسامحة مع «العدو» شديدة على شريك الوجود والمصير.

 

ولقد عاش غسان توينى عمره فى قلب المأساة، واستطاع الانتصار على موت الأب وهو غائب عن الوطن، وموت الابن وهو غائب عنه وموت الابنة قبل أن تكمل الدورة الأولى من حياتها، وعايش الموت البطيء مع الحبيبة الزوجة محولا وجعه إلى جهد خلاق لحماية الناس من الوجع، ثم كان الانتصار الأعظم حين حول اغتيال «جبرانه» إلى صرخة تنبيه إلى خطورة الغرق فى غياهب الثأر والانتقام، بينما مصير الوطن معلق على حافة المجهول.

 

عاش غسان توينى الإنسان مأساة مفتوحة، ولكنه انتصر على مشاعره الشخصية كابن وأب وزوج بقوة إيمانه بوطنه، بأرضه، بشعبه الذى كان يراه على شفا جرف دموى يتهدده فى وجوده. وكان عزاؤه فى سلاحه الأمضى: الكلمة. الرأى. الحوار. العودة إلى البديهيات.

 

لقد نشأت أجيال على افتتاحيات غسان توينى وخطبه ومحاضراته فى الداخل كما فى جامعات أجنبية وأمام محافل دولية لعل الأشهر بينها موقفه المشهود فى مجلس الأمن الدولى وهو يحاول استنقاذ وطنه الصغير من براثن الصراع بين الدول، بعد الاجتياح الإسرائيلى (الأول!!).

 

ويخطئ من يتعامل مع غسان توينى كصحفى لبنانى فقط، أو كصاحب رأى لا يعنى إلا اللبنانيين وحدهم.

 

لقد نجح غسان توينى فى أن يكون صاحب مدرسة فى الصحافة العربية. ولقد أثرت «النهار» كمدرسة صحفية فى العديد من المؤسسات والدور الصحفية، مشرقا ومغربا... بل إن تأثيرها السياسى قد ارتكز فى جزء أساسى منه إلى نجاحها المهنى. وقد عجز كثيرون عن تقليدها ليس فقط لأن غسان توينى، الصحفى، أكفأ منهم مهنيا، وأشجع منهم فى التعبير عن رأيه، بل أولا وأساسا لأن بلادهم لا تتمتع بمناخ من الحرية يسمح بإطلاق الكلام قاطعا كالسيف، ولأن قواعد

 

ممارسة المهنة تخضع للرقابة التى تقوم على حماية ديكتاتورية الطاغية. وكثيرا ما كان قلم غسان توينى سيفا.

 

بل إن غسان توينى نفسه كان يؤمن بأن الصحافة اللبنانية تكون عربية أو لا تكون صحافة بأى معنى ومن هنا كانت «النهار» السباقة إلى اعتماد موفدين من محرريها إلى مواقع الأحداث فى الوطن العربى، بل إنها فتحت أبواب مكاتبها لكل القادة والمسئولين العرب الهاربين من ظلم حكامهم فى أوطانهم.. فما قيمة أن تنشر مطبوعات جهوية أو كيانية ضيقة بينما المدى السياسى والفكرى، الاقتصادى والاجتماعى والأمنى، عربى حكما. وبين كفاءات غسان توينى أنه شرع باب «النهار» أمام أقلام مبدعة أبرزها ميشال أبوجودة.

 

ربما لهذا، فى جملة أسباب أخرى، لا تصلح صيغة للماضى للحديث عن الصحافة فى لبنان، وبالتحديد عن غسان توينى. فالصحافى ليس راوية، وليس مجرد شاهد، ليس ناقلا فحسب، وليس آلة تصوير. إنه الأذن والعين والعقل والوجدان معا. والنجاح رهن بقدر ما يستقر الاسم فى ذاكرة الناس ويؤثر فى قرارهم وموقفهم وينير الطريق أمامهم بالمعلومات ومن ثم الرأى، من دون تعصب يغلق العقل أو غرض يشوه القصد ويضلل الناس بدل أن ينفعهم فى يومهم وفى غدهم.

 

●●●

 

الصحافة جميعا فى حداد.

 

وفى ما يعنينى شخصيا فإن بين أسباب اعتزازى بمهنتى أن قدرى قد أتاح لى أن أصنف زميلا معاصرا لغسان توينى، ثم أن تشاء لى الأقدار أن أتسنم موقع المنافس لغسان توينى فى «النهار» لهذا فأحزانى يعقوبية.

 

وليكن رحيل غسان توينى عن دنيانا حافزا لحماية الصحافة فى لبنان، وهى التى حولها غسان توينى و«النهار» إلى منارة يشع نورها فى الوطن العربى جميعا.

 

رحل غسان توينى الصحفى الرائد والسياسى الجرىء والأب الصابر

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved