مهارة الاختلاء بالنفس

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 11 مايو 2009 - 7:33 م بتوقيت القاهرة

 فقدنا القدرة على أن ننفرد بأنفسنا. قليلون هم الذين مازالوا يحتفظون بمهارة الانفراد بالنفس أو بالرغبة فى ممارسة هواية التأمل، والشرود إن أمكن. يحلو لنا أحيانا أن نبتعد لفترات طويلة أو قصيرة عن الناس ونخلو إلى أنفسنا، ولكن تحول بيننا وبين تحقيق هذه الرغبة التكنولوجيا التى تغلغلت فى جميع جوانب الحياة ووجوهها واخترقت مساحات كانت دائما محجوزة لتهدئة أعصابنا وإراحة بالنا وممارسة خصوصياتنا. تغلغلت الى حد أن الناس تجدهم وهم ساكتون أو متحدثون مشدودة أعصابهم وعيونهم زائغة وأصابعهم لا تستقر فى مكان، العيون والأصابع تبحث فى لهفة أحيانا وبعدم اكتراث فى معظم الأحيان عن زراير هواتفهم المحمولة. أكثرهم حملوا الهواتف إلى آذانهم، ينصتون ويتكلمون فى آن واحد بمهارة شديدة.

كنا فى زمن ولى نذهب إلى الريف، أو نخرج إلى الصحراء أو نتسلق التلال والجبال لنعيش ساعات أو أياما من الهدوء، كان السعى وراء «الوحدة» والاختلاء بالنفس ضرورة وشرطا لتجديد النشاط وتطهير السمع وتحسين القدرة على الإنصات، وهى قدرة أخشى أن تكون قد ضمرت ضمن حسنات أخرى كثيرة تدهورت . لم يكن هناك هاتف جوال يقلق راحتنا ويوتر أعصابنا. كنا نعرف، كما كان يعرف هنرى ديفيد ثورو، أنه لا رفيق أو صديق أو حبيب يغنينا عن رفقة الوحدة والانفراد بالنفس. كانت الوحدة رفيقا وأنيسا، نسعى إليها بين الحين والآخر، ننعم بدفئها الناعم قبل أن نعود إلى دفء من نختار من بنى البشر.

نعيش الآن وسط زحام البشر وتكدسهم، ويظن البعض منا أنه بذلك لن يعانى من وحشة الوحدة . لا يعرف هذا البعض أنه فى هذا التكدس سيعانى آلام وأوجاع نوع مختلف من الوحدة، نوع خبيث. «زحمة» فى كل مكان. وأصوات من كل صوب، وأيادينا على هواتفنا الجوالة. نأكل ونسمع ونتكلم، أو نشرب ونسمع ونتكلم، أو نقرأ ونسمع ونتكلم، أو نكتب ونسمع ونتكلم. لم نعد نمارس شيئا إلا ونحن على الهاتف نسمع ونتكلم، نظن أن هذه الاتصالات تعوضنا عن العلاقات الإنسانية الحميمة و الملموسة والمحسوسة. وهو ظن أخشى أن أقول إنه ظن خائب، فالاتصالات التى نقوم بها عبر الهواتف والرسائل الإلكترونية والفيس بوك والتشات وغيرها، لا تشبع إلا القليل جدا من غرائزنا واحتياجاتنا الاجتماعية ولا تصنع لحظات حقيقية من «العيش المشترك». هذه الاتصالات مهما زادت عددا وتعمقت أو تكثفت تبقى مثل «المقبلات» التى تسبق الوجبة الرئيسية، بل هى فعلا مقبلات اجتماعية ولن تحل محل الوجبة الأساسية إشباعا او استمتاعا. لن تتحول فتصير علاقات من نوع علاقات الصداقة العميقة. ستظل هامشية وغير حيوية وقليلة النفع اجتماعيا وعاطفيا.

أذكر أياما كنا نسر إلى «أصدقائنا» بمعلومة شديدة الخصوصية نعرف سلفا أنها ستكون لدى الأصدقاء ذات قيمة كبيرة، لا لشىء إلا لأننا كأصدقاء نعرف أن لا أحد غير من أسر بها ومن أسر له بها علم بها أو اطلع عليها وهذا فى حد ذاته كاف لتكون للمعلومة قيمة. نسمع فى النادى أو القطار أو الميكروباص أو التاكسى، جارا يتحدث إلى الهاتف الجوال يبلغه ويبلغنا معه معلومات لم تعد بالتأكيد شخصية وبالتأكيد فقدت أى صفة كانت لها من صفات الخصوصية، كنت مستقلا قطار الإسكندرية وجلست فى جوارى القريب سيدة وفى جوارى الأبعد رجل كلاهما لم يتوقف عن الحديث إلى الهاتف الجوال. نزلت من القطار بعد ساعتين ونصف وقد أضيف إلى مخزون القصص التى أحتفظ بها روايات ومعلومات تتراوح بين الخاص جدا، وبعضه غير مباح تماما إلا بين صديقين حميمين أو زوجين، وبين العام جدا وبعضه خارج عن المألوف والقانون كالتفاصيل التى سمعتها عن رشوة دفعت لموظف كبير للحصول على خدمة وأخرى حملت انتقادات لمسئول عظيم كفيلة بأن تودى بصاحبها إلى التهلكة. هكذا صارت الخصوصيات عموميات ملكا للسامعين سواء كانوا على الناحية الأخرى من الخط أو كانوا من الجيران الذين أسعدهم الحظ للاستماع إلى أسرار الحديث أو الذين ساء حظهم فوضعهم فى مرمى كلمات لا تعنيهم. فقدت الكلمة قدسيتها وفقدت المعلومة صدقيتها لدى المتفوه بها والمتلقى لها معا. أنت فى القطار لا تقرأ، ولا تسرح بعيدا أو طويلا، أنت لن تكون وحيدا وغير مسموح لك بأن تخلو إلى نفسك، وبالتالى لن تخرج من رحلة القطار مستفيدا من فكرة بديعة أو خطة مشروع مثمر. يقال إن نسبة لا بأس بها من كبار المفكرين فى التاريخ عشقوا الوحدة وقدسوا الانفراد بأنفسهم فلم يتزوجوا. ديكارت ونيوتون وجون لوك وسبينوزا وكانت ونيتشه وكيركجارد، هؤلاء وغيرهم من كبار مؤلفى الموسيقى والفنانين التشكيليين والأدباء لم يتزوجوا أو كانت لهم عائلات. أغلبهم قضى معظم حياته وحيدا مع تحفظ واحد بسيط وثانوي.. وهو أن العزوبية لم تكن تعنى بالنسبة لهم حرمان أنفسهم من علاقات من نوع آخر، ولكن تعنى أنهم كانوا على درجة كبيرة من المهارة فى الاختلاء بأنفسهم عندما أرادوا، وتعنى أيضا أنه لولا هذه المهارة التى تمتعوا بها ما وصل إلينا إبداعهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved