مصادر قوة «داعش»: تهافت النظام المضروب بالطائفية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 10 ديسمبر 2014 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

قبل أيام، جمعنا لقاء مميز بالدكتور المهندس محمد شحرور، أحد أبرز العلماء المجتهدين فى إعادة تفسير النص القرآنى بمضمونه الحقيقى ودلالاته الفعلية، كما يفهمها فيقبلها أى عالِم مستنير، اليوم، وبعد ألف وأربعمائة وست وثلاثين سنة على نزوله على النبى العربى محمد بن عبدالله.

ولقد عوّدنا هذا الباحث الدمشقى المجتهد على مثل هذا اللقاء كلما أوصلته أبحاثه ودراساته المعمقة وبحثه فى الموروث من كتابات السلف الصالح والمناقشات المفتوحة بعد فى رأيه على الحوار والاجتهاد فى التفسير لتحرير النص المقدس من التفسيرات الآلية أو المرتجلة أو تلك التى تجمدت فى مقولات الأولين فيجرى تداولها وكأنها أحكام مبرمة لا تقبل الرد أو حتى المناقشة.

مع نهاية اللقاء تعاظم خوفنا على هذا العالِم المجتهد الذى يجيء فى زمن الإظلام بالأمر والتجهيل بحد السيف والتكفير القاتل لأهل الإسلام الذين قد يختلفون فى التفسير، أو قد يجتهدون فيصيبون أو يخطئون ولكن منطلقهم حفظ قداسة الرسالة من التشويه المتعمد بالجهل أو بالغرض أو بالتعصب الأعمى الذى يؤذى المسلمين فى دينهم، ويؤذيهم أكثر فى دنياهم.

«الداعشى» هو وحده صحيح الإسلام، ومن تبقى من المسلمين إما غارقون فى وهدة الكفر وإما انهم مضللون أخذوا بعيدا عن الدين بأصله ولا بد من إعادتهم إلى حومته، وأما أهل الكفر من الشيعة والمذاهب والبدع الأخرى فلهم السيف: «فالرافضة طائفة شرك وردة، بل كفر، وردة الكافر بالتحاكم إلى شرع الله وحده. العلمانية على اختلاف راياتها وتنوع مذاهبها كالقومية والوطنية والشيوعية والبعثية هى كفر مناقض للإسلام فخرج من الملة..».

هذا فى «النظرى»، أما فى «العملى فإن الأوضاع التى كانت سائدة فى عراق ما بعد جلاء قوات الاحتلال الأمريكى عنه، قد شكلت نوعا من التمهيد لما نشهده هذه الأيام. فقد تمّ تخريب بنية الدولة وحل الجيش وتعميق عوامل الفتنة بين السنة والشيعة من خلال تصوير خلع نظام صدام حسين وكأنه الفرصة القدرية لنيل الشيعة حقوقها التى كانت محرومة منها منذ إقامة «الدولة» وتنصيب الملك الهاشمى فيصل بن الشريف حسين عليها فى العشرينيات من القرن الماضى.

ومن أسف فإن من تولى السلطة فى بغداد وريثا لنظام صدام قد مارس النهج ذاته مقلوبا، وسط بحر من الفساد والإفساد الذى يتجاوز أى تقدير، وهكذا فقد تم التنكيل بالقيادات السابقة للجيش، فأُبعد كبار الضباط والمؤهلون وأصحاب الخبرة تماما عن السلطة التى أغرقها من سُلّمت إليهم بالفساد المريع: نُهبت موارد العراق، وتم توزيع الثروة انتقائيا وعلى قاعدة المحاصصة بين من تولوا مقاليد الحكم.

•••

انقلبت الآية واختلفت الأدوار: صارت «النخبة» المتحكمة بالقرار والمنافع شيعية (مع إسناد كردى بالمحاصصة)، وتم تعيين من حضر من الضباط المهمشين أزلام السلطة الجديدة فى مواقع قيادية لا يستحقونها، واستُبعدت «الصحوات» التى أنشأها أو نظمها الأمريكيون لتكون «الرديف السنى» للجيش، الذى غدا شيعيا الآن، عن القرار.

وهكذا تم استيلا بيئة معادية للسلطة، على أتم الاستعداد لقبول أى وافد جديد يستنفر عصبيتها الطائفية وشعورها بالتهميش وواقع إذلالها بالفقر والاستبعاد عن مركز القرار.

لذلك أمكن لتنظيم «القاعدة»، بداية، وضمن حدود معينة، أن يجد بيئة حاضنة فى «المناطق السنية» فى العراق، خصوصا وقد جاء تحت راية الدعوة لقتال الاحتلال الأمريكى.. فهذا القتال كان الذريعة التى يسّرت لطوابير من الإسلاميين فى سوريا (والخارج) أن يتوجهوا بعلم النظام فى دمشق وبفضل تسهيلات خاصة تم توفيرها لهم فيقطعوا الحدود الشاسعة وشبه الصحراوية بين البلدين الشقيقين لكى ينالوا حقهم من «الجهاد ضد الكفار» ممثلين بجنود الاحتلال الأمريكى.

وبالتأكيد فإن «إسلاميين» آخرين قد ذهبوا إلى «الجهاد» فى العراق، حيث كان قد وقع انشقاق تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» عن «القاعدة»، مندفعا إلى التركيز على «الظلامة السنية» مسقطا الحدود بين الدولتين العراقية والسورية.

•••

كانت بغداد مشغولة بصراع أهل السلطة على المكاسب والمنافع، متكئين على تحالف تواطؤ ضمنى بين واشنطن وطهران.. فيما كان من صاروا قياديين لداعش فى ما بعد، وبينهم نسبة كبيرة من الضباط السابقين فى الجيش العراقى، يتوزعون بين المعتقلات والسجون (وبصفة خاصة فى سجن أبى غريب) والبطالة والرواتب الضئيلة يتجولون بين المدن والبلدات السنية يجمعون الغاضبين لظلمهم (الذى يسهل نسبته إلى كونهم من أهل السنة)، ويستعينون بالأكفاء من هؤلاء الضباط الذين أوفدهم صدام حسين إلى حرب السبع سنوات ضد إيران الثورة الإسلامية ثم وقبل أن ينالوا قسطا من الراحة عاد فأوفدهم إلى «غزوة» احتلال الكويت بسبب من تنكّر دول الجزيرة والخليج لتعهداتها وهى التى حرّضته على مهاجمة إيران مع وعود مغرية بالتمويل وإعادة بناء ما تهدم فى العراق... فلما أخلفت وعدها قام بغزوته، وفى الكويت لحقت هزيمة نكراء بالجيش العراقى الذى وجد نفسه فى مواجهة تحالف دولى يضم إلى الجيوش الأمريكية بحرا وبرا وجوا قوات مقاتلة من دول حلف الأطلسى، مع «نخب» مختارة من الجيوش العربية الأقوى: مصر وسوريا، جاءت تقاتله فى إطار «التحالف الدولى لتحرير الكويت»!

على هذا يمكن القول ان تنظيم «داعش» لم يحقق نصرا مدوّيا فى غزوته العراق، واحتلاله العاصمة الثانية ذات المليونى نسمة (مع ريفها) الموصل، بقوة «جيشه» الذى قطع مئات الكيلومترات فى أرض مكشوفة بالسيارات اليابانية التى كانت «مدنية» فزوّدها بآلة الحرب (مدافع وصواريخ ورشاشات ثقيلة)... بل هو قد تقدم ليتسلم هذه المدينة ذات الموقع الاستراتيجى الخطير، بلا قتال!

لقد سلّم الجيش العراقى الموجود فى المدينة ومحيطها من دون أن يطلق رصاصة واحدة: أكثر من خمسين ألف جندى معززين بالدبابات والمصفحات والمدفعية وسائر عدة الحرب، خلعوا ملابسهم العسكرية، وتركوا آلياتهم سليمة وكذلك مخازن الذخيرة، وانسحبوا عشوائيا ليدخل «الخليفة» منتصرا بغير قتال، متقدما إلى مسجدها الكبير ليعلن انتصار دعوته بخطبة عصماء، تفيد أن هذا «المجاهد» السابق لم يهدر وقته قبل السجن وفيه وبعده، بل عمل جاهدا لتصفية منافسيه وربط الأنصار والموالين من أهل السنة المحبطين به، بمن فيهم من كانوا فى «الصحوات»، وكذلك فتح الباب لاستيعاب الضباط السابقين فى جيش صدام الممتلئين بمشاعر النقمة والرغبة فى الانتقام لكرامتهم... ولطائفتهم، واستعادة ما يرونها حقوقا لهم فى بلادهم.

•••

ليست الانتصارات الباهرة التى حققها «تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام» حصيلة كفاءات قياداته العسكرية وعمليات الذبح والسبى الجماعى والإعدامات العلنية لبعض من اختار من «أسراه»، أجانب بالدرجة الأولى، ثم مدنيين اعتبرهم «كفارا وأهل ضلالة»، أو «خونة» من «الرافضة» خرجوا من الدين وعليه... بل إن هذه الانتصارات هى أولا وأخيرا من ثمار المناخ المؤاتى الذى رافق غزوته. فهو قد غرف من بحر الغضب الشعبى واستقطب كثيرا ممن ينقمون على النظام، أو أنهم يقاتلونه فعلا (فى سوريا أساسا ثم فى العراق)، واحتل مدنا وبلدات كانت جاهزة لاستقباله. وهو كان استقر بقواته، قبل عام تقريبا، فى مدينة الرقة السورية، على الضفة الغربية لنهر الفرات الذى يمتد مجراه عبر الصحراء المشتركة بين سوريا والعراق ليعبر الموصل والرمادى وديالى إلى مصبه حيث يلتقى نهر دجلة ليشكلا معا «شط العرب» عند البصرة، حيث يبدأ الخليج العربى الذى تتقاسم ضفتاه إيران من جهة والكويت ودولة الإمارات والسعودية وعُمان من الجهة الأخرى، لينتهى عند مضيق هرمز مدخل المحيط الهندى.

باختصار، فإن انتصارات داعش المفاجئة والتى فاضت عن التوقع هى حصيلة دهر من الغلط وأكوام من الممارسات الخاطئة التى لبست لبوس الطائفية والمذهبية لتبرر ما لا يبرر من فساد السلطة والتقصير الفاضح فى توطيد الوحدة الوطنية وفى تحصين البلاد بقدرات أهلها كما بثرواتها الظاهرة.. والدفينة. ألا يقال إن العراق كله يعوم فوق بحر من النفط؟!

•••

إن «داعش» يقاتل الآن بالسلاح الثقيل والخفيف الذى غنمه من دون قتال.. وبالأموال التى أخذها مكدسة فى ربطاتها من خزائن الموصل أو جناها من حصيلة بيع النفط المنهوب إلى الدولة التى لا يمكن تبرئتها من التواطؤ... فتركيا أعظم المستفيدين من تدمير هاتين الدولتين العربيتين (سوريا والعراق)، من دون أن ينفى هذا الاستنتاج المسئولية العظمى للنظامين الحاكمين فى كل من دمشق وبغداد عن سقوط معظم المناطق التى سيطر عليها «داعش» من دون قتال أو بقتال أضعف الإيمان. (بما فى ذلك حقول النفط والسدود التى تتحكم بمياه الفرات والتى من شأنها إذا ما هُدمت أو نُسفت أن تغرق الأرض ومن وما عليها بفيضان لا يمكن وقف تدفقه المدمر..). وبالتأكيد فإن الإسلام كما يقدمه المفكر المستنير الدكتور المهندس محمد شحرور بريء من أمثال هؤلاء الذين يحملون الراية الإسلامية ويتقدمون بقوة السلاح لاحتلال الفراغ الناجم عن فساد السلطة الذى ضرب وحدة الشعب ومقدرات البلاد وفتحها أمام الزاحف تحت رايات التعصب لأخذها... فاتحا الباب أمام عودة المستعمر بثياب النجدة وحماية الدين الحنيف، هذه المرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved