حارة فى القلب

سعيد الكفراوى
سعيد الكفراوى

آخر تحديث: الثلاثاء 10 أغسطس 2010 - 10:41 ص بتوقيت القاهرة

 تسألنى عن الحارة، أى حارة، ما هى الحارات كتير، اسأل عمك كبير المقام نجيب محفوظ.. أولاد حارتنا، حكايات حارتنا.. حارة وحارة وتدخل من حارة وتطلع من حارة، ثم تطل على الأبدية..
والحارات أنواع.. حارات للزمان وحارات للمكان.. وحارة هنا فى المدينة، وحارة هناك فى القرية، وأنا أقمت فى زوايا تلك الحارات التى تنتمى للقرية، طفلا وصبيا، وشابا ثم كهلا ورأيت فى عالمها هناك وجه الله الأكثر ألقا ونورا.

كانت الحارة سد واسمها حارة نوار فى بلد اسمه كفر حجازى مركز المحلة غربية.. أول الميلاد حيث زحفت على ركبتى ومن ترابها سففت كلما جعت للمعارف واكتشاف أول الخطى.. فى حارة نوار، من قال عنها الجبرتى فى تاريخه ص313 وذكر جدى الشيخ الكفراوى صاحب حاشية النحو حيث ولد فى تلك الحارة بتلك القرية.. رحم الله جدى والجبرتى، سلالة من سلالة، ومن شعب يثير العجب.
فى الأربعينيات كنت فى عمق تلك الحارة القروية، وكنت لا أزال طفلا أطل من شرفة دارنا الطين فى الليل على الحارة فأسمع صوت طير يسكن مأذنة لجامع سيدى أبوحسين ويتناهى إلى أصوات لا أعرف من أين تصدر، وأسمع قبل الفجر فى حيز المكان رمح مهرة فأخاف وأغض طرفة النافذة وفى الصباح عندما أخبر جدتى كانت تجيبنى، إنهم أهل الليل من الفرسان الذين يسكنون المسجد فلا تخاف، لأنهم يخرجون بالليل ليحموا مقام سيدك أبوحسين، تتجلى الحارة فى القرية لى بمشاهد وأحداث، وتظل قاعة فى القلب منيرة مثل قبس من نور.. فى الصيف على مصاطبها مجلس للهاربين من خنقة البيوت، ورائحة الزرائب، وكبسة النفس، فيجلسون ويقصون احسن القصص.

وفى الموالد تنيرها الكلوبات ويتجمع الخلق فى ساحتها وتأتى لها ملاعيب المدن.. فى رمضان تزفها زحمة من طبل وأغاريد وسيرك صغير ينصب خيمة على حافة الترع، ورجل الكونغو أتذكره يكبس فى رأسه طرطورا، وأسمع صوته يجلجل عن قرب «قرب، قرب، قرب، وشوف البنت بتاعة الكهربا» سنين مرت وإيقاع الصوت وشكل البنت والحيز المكانى فى الحارة تتجليان لى فى الحلم وفى الصحو، ورمضان جزء من الطقس العام حيث ينصب الذكر فيهتز الفلاحون على أرضها حتى السحور وحتى صلاة الفجر، وينور الله الدنيا بمصباح النور من عند شباك النبى.
وأنا غلام أقف على عتبة الدهشة بداخلى يتجسد عالم من السحر ظل مقيما بقلبى حيث قبضت على بعض صوره وثبتها فى الكتاب علامة على بهجة الروح واستعادة لأيام الماضى ولو من كل عام يوم.
حارة المدينة؟ بكل تجلياتها؟ العطوف والدروب والدراويش وأهل القرى السائرين القادمين، وتجلى الفتوات، والناس مسطحين على أرض الحارة حولهم التكايا، والمقامات، وكرامات الأولياء، وانتهاك الحرمة، وزحمة دخلة البشر للسيدة والمقام، يصعد دخان المساطيل من نوافذ وأبواب المقاهى القديمة، بنت التاريخ، وبنت الأزل، تشم رائحة الفسق بالمحارم تحت السقوف الساخنة.

 
انتبه اين انت ذاهب، ليست تلك حارتك، انت تعرج بجهل الصبيان قليلى الخبرة حيث حارة المعلم الكبير وأبينا الروحى الذى فى السماء نجيب محفوظ، وأين لك يا صبى الأيام الماضية والراهنة التى بلا روح، والتى لا تعرف الأمانة، انتبه ليس هذا عالمك، إنه عالم الرجل الذى لا يفنى ولا يحق لك أن تطرق بابه، لأنه فى كل الأحوال لن يفتح لك ولا لغيرك.
الحارة الآن لقد رحل أهلها، فى تغريبة عثمانية جديدة، وعادوا بأموال برائحة الجاز، وعلى نفس المساحات القديمة أقاموا العمائر والدكاكين ومحال الأجهزة ومقاهى المشاريب وركنوا السيارات وشربوا المخدرات والمسكرات ثم حفروا حفرة دفنوا فيها، كل ما كانت تبتهج به الحارة القديمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved