صراع القطبين فى الحالة المصرية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 11 يونيو 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تتوالى الأحداث الجسام وتزداد المشكلات تعقيدا ومع ذلك يبقى قطاع مهم من شعب مصر متفائلا، بدليل خروجه إلى الميادين تعبيرا عن ثقته المتجددة فى الثورة وأهدافها وإصرارا على الاستمرار فيها وتأكيدا على أن المناورات السياسية التى تمارسها القوى المتنافسة لم تضعف رغبته أو تحرفه عن طريقه.

 

 جمعنى لقاء بشخص قضى وقتا مثيرا يراقب فيه مراحل الانتقال إلى الديمقراطية فى دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإسبانيا وجنوب أفريقيا. كان لقاء ممتعا ليس فقط لأن محدثى تمتع بموهبة تسمح له بأن يجعل من موضوع ثقيل موضوعا جذابا ومشوقا. كان ممتعا أيضا لأننى شعرت خلال اللقاء بأن فى تجربتنا المصرية ما يضيف الكثير إلى الأفكار والنتائج التى توصل إليها المتخصصون عبر ثلاثة عقود، من خلال دراساتهم عن مراحل الانتقال المختلفة.

 

●●●

 

كنت ضمن مجموعة انشغلت، قبل نشوب الثورة المصرية، بتجميع كل ما يمكن جمعه من المعلومات والتحليلات عن مراحل الانتقال من الدكتاتورية والأنواع المتعددة من السلطوية إلى الديمقراطية. كان الهدف تكوين تعبئة رأى عام بين المثقفين وصانعى الرأى فى العالم العربى ليكون جاهزا بعد عام أو عامين أو عشرة لممارسة واجبات سيفرضها الانتقال إلى الديمقراطية. ولم تذهب جهودنا هباء، مع أنه كان يمكن أن نستفيد أكثر من هذه الجهود وتجارب الدول الأخرى، لو كنا، وأقصد نفسى وزملاء وأصدقاء اهتموا طويلا بأمور الانتقال إلى الديمقراطية، قضينا وقتا أطول ندرس فيه الواقع المصرى، بمعنى أن تكون بين أيدينا خريطة دقيقة توضح الأحجام الحقيقية للقوى الاجتماعية والسياسية فى مصر وتتوقع ردود فعلها فى حال اخذ الشعب يوما قراره بالتغيير والانتقال إلى الديمقراطية.

 

 نعترف الآن بأننا قصرنا. ولكننا نعترف أيضا أننا فى خمسة عشر شهرا، أى منذ اندلاع أول شرارة للثورة، استطعنا أن نعرف عن مصر أضعاف أضعاف ما كنا نعرف، أو ما كنا نعتقد أننا نعرف. كان هذا الإنجاز الكبير فى مدة هكذا قصيرة يقف وراء تفاؤل الكثيرين، وبخاصة من الشباب، بمستقبل مصر. نحن الآن لم نعد نتعامل مع فزاعات أو وحوش خارقة للعادة أو مؤسسات راسخة رسوخ الأهرامات أو شخصيات سياسية تصورناها منزهة عن الخطأ والخطيئة. نعرف عن أنفسنا وعن بلدنا وعن جيراننا ما لم نكن نعرف. توقف تقدمنا فى زمن قفزت فيه شعوب عديدة قفزات واسعة. لم نتقدم وقتها لأننا لم نكن نعرف عن أنفسنا ما يكفى، أو لأن ما وصلنا عن الحقيقة كان مشوها وناقصا. ومع ذلك هناك فى عالمنا العربى وفى مصر تحديدا من يقول ليتنا بقينا عند حدود القليل الذى كنا نعرفه حتى لا يأتى ويهيمن من يكره التقدم.

 

●●●

 

تحدثنا فى اللقاء عن أهم نقاط الاختلاف بين تجربة الانتقال المصرية وتجارب الدول الأخرى. كان السؤال المحورى فى المرحلة المبكرة من النقاش هو المتعلق بالصعوبة الواضحة التى تواجه «الإصلاحيين» المصريين على كافة مستوياتهم عند التعرض بالدراسة أو بالممارسة لدور المؤسسة العسكرية فى المرحلة الانتقالية وما بعدها، وهل واجه الإصلاحيون فى أمريكا الجنوبية الصعوبات نفسها؟

 

توجد أوجه شبه لا شك فيها بين الثقافتين، الثقافة السياسية المصرية من ناحية والثقافة الأمريكية اللاتينية من ناحية أخرى. هناك وهنا يعود الدور المتميز للمؤسسة العسكرية إلى تاريخ قديم، هناك يعود إلى ثقافة الضباط الإسبان والبرتغاليين الذين قادوا جيوش الدولتين لغزو الأمريكتين وتولوا حكم المستعمرات بإذن من مدريد ولشبونة ثم بدون إذن منهما. هؤلاء العسكريون اصطحبوا معهم أعدادا كبيرة من الكهنة والمبشرين من رجال الدين لمساعدتهم فى تحقيق الانضباط بين الجنود والمستوطنين وللتبشير بين الهنود الحمر بغية التأكد من خضوعهم واستسلامهم للرجل الأبيض. هكذا ترسخ فى العقل الشعبى فكرة القائد الزعيم Caudillo والذى لن تستقر الأمور فى غيابه وتنتشر الفوضى ويخرج الأهالى معلنين التمرد والعصيان، أما هنا فى مصر فيعود دور المؤسسة العسكرية فى منظومة الحكم فى أكثر الدول العربية إلى ثقافة نشأت وتعمقت فى عصور المماليك، وبعدها فى ظل الخلافة العثمانية. وفى الحالتين، كانت علاقة هؤلاء الحكام برجال الدين فى مصر، علاقة من نوع خاص، حيث كان الحكام يعتمدون فى أغلب الأزمات وسنوات القحط والمجاعات على رجال الدين لحفظ النظام وكانوا يحملونهم تبعة أى خرق للنظام العام وأمن «المجتمع».

 

 تطورت العلاقة بين الحكام العسكريين ورجال الدين فى أمريكا اللاتينية بعد الاستقلال، وبخاصة فى النصف الثانى من القرن العشرين عندما تخلى رجال الكنيسة عن الحكام وراحوا يؤيدون الفقراء والمظلومين. وبالفعل كان لهم دور فى نشوب حركات التمرد والاحتجاج التى أثمرت فى نهاية الأمر سقوط الحكومات العسكرية وبدء تنفيذ برامج إصلاح القطاعات الأمنية.

 

تختلف التجربة المصرية عن تجربة أمريكا اللاتينية فى هذا الصدد. إذ بينما لم تقم فى أمريكا اللاتينية أحزاب دينية بالمعنى المتعارف عليه فى الدول الإسلامية وفى الهند، قام فى مصر حزب سياسى بأساس دينى، منتهزا فرصة وجود مؤسسة دينية تقليدية غير فاعلة سياسيا، بمعنى أنها لم تبذل جهدا إجتماعيا أو سياسيا يذكر لحماية الفقراء والمهمشين والمضطهدين، كالجهد الذى بذلته المؤسسة الدينية فى أمريكا الجنوبية خلال حركات التمرد والاحتجاج. المشكلة فى المرحلة الانتقالية المصرية تبدو فى أن الطرفين الأقوى تنظيما فى المرحلة الانتقالية الراهنة يتواجهان فى عملية «صفرية»، أى تحت الاقتناع بأن انتصار طرف يعنى زوال الطرف الآخر.. أو امتصاصه أو إضعافه إلى حد فقدانه الفاعلية السياسية. بمعنى آخر يصعب تصور أن توافق المؤسسة العسكرية على إدخال أى إصلاح فى قطاع الأمن طالما استمرت جماعة الإخوان المسلمين تحتل مكانة الحزب السياسى الأكبر والمرشح الأقوى بين القوى «المدنية» لتولى مقاليد الحكم.. من ناحية أخرى يصعب تصور أن يقبل الإخوان المسلمون الدخول فى عملية سياسية يتنازلون فيها عن بعض أسباب قوتهم وتفوقهم طالما أصرت المؤسسة العسكرية على الاحتفاظ بمكانتها المتميزة فوق كل مؤسسات الدولة.

 

●●●

 

عندما وافقت المؤسسة العسكرية فى تشيلى على برنامج متوسط الأجل لإصلاح القطاع الأمنى فى الدولة واستعادة التوازن بين مؤسسات الدولة وقواها السياسية والتشريعية وقوى المجتمع المدنى، لم يكن هناك فى شيلى مؤسسة أخرى فى حجم أو قوة المؤسسة العسكرية أو تجاهر بأنها منافسة لها. كذلك فى إسبانيا انطلقت العملية الانتقالية عندما جرى استدعاء «مؤسسة الملكية» أى القصر الملكى والعائلة المالكة والملك لتولى مهام القيادة الرمزية بصفتها مالكة الشرعية التاريخية، فكان الاستدعاء إشارة إلى المؤسسة العسكرية بضرورة الخضوع للمؤسسة التى تمثل بحق شرعية الدولة وهى الملك.

 

لا تقدم التجربة السياسية المصرية نموذجا يماثل النموذج الإسبانى. لا توجد المؤسسة مالكة الشرعية التاريخية ولا توجد المؤسسة الأقوى بلا منازع أو منافس. يوجد من يلوح بحقه فى أن يحكم من واقع القوة المطلقة والموقع المتميز دائما فوق مؤسسات الدولة وخبرة ستين عاما وفى المقابل يوجد من يلوح بحقه فى أن يحكم باسم الدين فلا شريك له ولا أحد من فوقه يراقب ويتدخل. هنا تكمن صعوبة مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية فى مصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved