البحث العلمي لا يكفي

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: الأحد 10 فبراير 2019 - 11:50 م بتوقيت القاهرة

قد تشعر بالدهشة من عنوان هذا المقال لأنك تظن أن البحث العلمي أهم عنصر لبناء دولة قوية، وقد تظن أنك تعرف ما أقصد من العنوان بأن البحث العلمي يستلزم تكنولوجيا من ورائه لتحويله إلى أجهزة وخدمات.. إلخ، الحقيقة أنني أقصد شيئاً مختلفاً ولبيان ما أقصده دعني أبدأ ببعض الأمثلة.

في سنة 1930 أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية مركزاً للأبحاث بالقرب من جامعة برينستون في ولاية نيوجيرسي يسمى معهد الدراسات المتقدمة (Institute of Advanced Studies)، فكرة هذا المركز أن يوفر بيئة للعلماء الكبار للتفكير فقط فلا يوجد تدريس أو إجتماعات أقسام أو أية مسئوليات إدارية فقط التفكير في البحث العلمي، من الرعيل الأول في هذا المركز أسماء تعتبر من النجوم الساطعة في سماء العلم في النصف الأول من القرن العشرين مثل ألبرت أينشتاين وكيرت جودل، المفاجأة أن الكثير ممن عمل في هذا المركز لم يقدم الإنتاج المنتظر منه!

السبب الأساسي لهذا أنك في هذه "الجنة العلمية" لا تواجه مصاعب أو معوقات من أي نوع وبهذا تصل إلى نوع من الرفاهية لا تساعد على الإنتاج، الفيزيائي العظيم ريتشارد فاينمان رفض عرضاً بالإنضمام إلى هذا المركز وقال إنه يحب أن يكون مفيداً وأن البحث العلمي قد يفشل ولكن وهو يعمل بالجامعة فإنه على الأقل يدرس للطلبة ... إذا البحث العلمي فقط لا يكفي.

الكثير من مقالات كاتب هذه السطور في الماضي (وإن شاء الله الكثير من المقالات القادمة) تتحدث عن عقول مصرية لامعة في المائة عام الأخيرة، هؤلاء العلماء أثروا الحياة العلمية والثقافية في مصر وواجهوا تحديات كثيرة وكبيرة مثل قلة الإمكانيات والبيروقراطية ... إلخ، إذا حاولنا تتبع حياتهم والإفادة منها سنجد أنهم كانوا يعملون في عدة أشياء بجانب البحث العلمي ... وهذا ما تحتاجه مصر الآن.

إذا كنت تريد أن تعمل في البحث العلمي فقط ولا شيء آخر فأرجوا أن تسأل نفسك الأسئلة الآتية: ماذا لو قضيت عدة سنوات من عمرك في مشروع بحثي ثم فشل أو لم يأت بالنتائج المرجوة؟ ماذا ستكون قد قدمت لهذا العالم؟ هل تحب فعلاً البحث العلمي أم تحب نظرة الناس إليك كباحث علمي؟ أرجو ألا يفهم القارئ أنني لا أريد من الباحثين خاصة الجيل الجديد أن يعملوا في البحث العلمي، ما أرجوه أن يجعلوا جزءاً من وقتهم لشئ آخر.

ماذا يجب أن تعمله بجانب البحث العلمي؟ وأحب أن أعيد أننا في وقت تحتاج فيه مصر إلى نشاط من الباحث بجانب البحث العلمي، لا نملك حالياً رفاهية أن نبني مركزاً مثل معهد الدراسات المتقدمة الذي أشرنا إليه، إذا نظرنا إلى حياة تلك العقول المصرية التي تحدثنا عنها في مقالات عدة لوجدنا أنهم بجانب البحث العلمي أثروا الحياة الثقافية والعلمية بل والفنية في مصر بأنشطة مثل الآتي:

أول هذه الأنشطة هي إنشاء أو تطوير الكيانات العلمية والثافية، كيف لنا أن ننسي تطوير الدكتور أحمد زكي عاكف لمصلحة الكيمياء؟ أو إنشاء عالم الحشرات الكبير حسن أفلاطون لأول متحف للحشرات في مصر في كلية العلوم بجامعة القاهرة؟

أحد أهم الأنشطة أيضاً تبسيط العلوم للعامة عن طريق المقالات والمحاضرات، من ينسى البرنامج الإذاعي العظيم الذي كان يقدمه الدكتور علي مصطفى مشرفة عن مختلف المعارف العلمية وإصداره لعدة كتب لتبسيط العلم للعامة مثل "العلم والحياة" و "الذرة والقنابل الذرية"؟

من الأنشطة التي نحتاجها وبشدة في أيامنا هذه هو تعهد الجيل الجديد من المعيدين بالرعاية والتدريب ليس فقط على البحث العلمي ولكن على التدريس أيضاً، عندما تعين الجامعة معيداً فلأنه حصل على تقديرات عالية ولا يوجد أي دليل إن كان يحسن التدريس، لقد تحدثنا في مقالات عدة عن أهمية التدريس وإنه لا يقل أهمية أو صعوبة عن البحث العلمي ولأنه ليس مجرد "تقرأ كلمتين وتروح تقولهم" وإن كنت تظن أنه كذلك فيجب أن تراجع رأيك هذا وتقرأ عن علم نفس التعلم وكيفية التأثير في حياة الطلاب، بحثك العلمي قد يفشل ولكن تأثيرك في طلابك ممتد، ونرى أمثلة كثيرة من تعهد جيل من العظماء للجيل الذي يليه من العظماء أيضاً مثل تعهد العالم العظيم على مصطفى مشرفة لتلامذته سميرة موسى ومحمد مرسي أحمد.

الخدمات الاستشارية أيضاً من الأشياء التي يمكن للعالم أن يفيد بها بلده لأنك تأخذ علمك من المعمل إلى حياة الناس، هذا يقودنا إلى سؤال عن نوعية البحث العلمي الذي نحتاجه حالياً في مصر، هناك نوعان من البحث العلمي: البحث العلمي لمجرد البحث العلمي والخوض في الأساسيات المجردة النظرية والبحث العلمي التطبيقي لحل مشاكل معينة، النوع الأول إذا نجح ينتج أوراقاً بحثية قوية من الممكن أن تفوز بجوائز لكن هذا البحث قد يأخذ عشرات السنين وقد يفشل في النهاية، هذه النوعية من الأبحاث يحتاجها العالم ولكن في مصر من الممكن أن نجعلها في الخطة الطويلة الأجل، أما الآن فنحتاج إلى النوع الثاني من الأبحاث الذي يحل مشكلات على أرض الواقع، لننس الجوائز والتفاخر ونركز على حل المشكلات على الأرض على الأقل الآن ... هذه وجهة نظري وقد أكون مخطئاً طبعاً.

البحث العلمي ليس ترفاً بل إنه مع التعليم يعتبر من أهم دعائم بناء دولة قوية، بدون التعليم لن يكون هناك بحث علمي وبدون بحث علمي سنتسول التكنولوجيا التي تجود علينا بها الدول الغربية بأثمان باهظة وبالتأكيد لن يعطوننا أفضل ما عندهم ... التعليم أمن قومي.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved