أخطر كتاب فى العالم!

ياسر علوي
ياسر علوي

آخر تحديث: الجمعة 9 مايو 2014 - 6:50 ص بتوقيت القاهرة

كيف يمكن أن يصدر كتاب فى الاقتصاد، حتى لو كان شيقا ومكتوبا بلغة بسيطة يفهمها القارئ العادى، فيبيع أكثر من نصف مليون نسخة فى أقل من ثلاثة أشهر، ليتصدر المبيعات فى كل الدنيا (باستثناء مصر المحروسة وعالمنا العربى للأسف)، ثم يستنفر عشرات من كتاب «اليمين الاقتصادى» فى كل الدنيا للتعليق عليه، سواء فى الصحف اليمينية الرصينة (الفاينانشيال تايمز والوول ستريت جورنال مثلا) أو فى الصحف اليمينية الشعبوية (الواشنطن تايمز وأمثالها)، أو فى مراكز البحث اليمينية فى أوروبا والولايات المتحدة.

الأغرب من كل ما سبق، هو أن جميع هذه المقالات لم تتضمن (حتى الآن على الأقل) ردا على فكرة الكتاب الأساسية أو تشكيكا فى معلوماته أو استنتاجاته، وإنما تضمنت تحذيرات شديدة اللهجة من «خطورته» باعتباره يمثل تهديدا حقيقيا للنظام الاقتصادى الرأسمالى!!، واستنفرت الكتاب اليمينيين للرد عليه، بطريقة تحريضية وكأننا فى معركة حربية. كل هذا بسبب كتاب؟

•••

الصحف الشعبوية لم تكتف فقط بإعلان «النفير» والدعوة للرد على الكتاب، بل أضاف بعضها مثلا تهمة «الشيوعية» للكاتب، وبدأ البعض الآخر فى محاولة اغتياله معنويا والتشهير به (بتخصيص تقارير «إخبارية» عن مشاكله الأسرية مع زوجته، وكأن هذه المشاكل لو صحت مثلا تنتقص من قيمة الكتاب!!)، الأمر الذى دعا الكاتب للرد فى تصريحات هذا الأسبوع فى «النيو ريبابليك» قائلا إنه ليس شيوعيا لم يقرأ ماركس أصلا، وأنه «مؤمن» بالاقتصاد الحر، ولكنه يرى أن انفلات السوق سيؤدى لكارثة (نص تعبيره الحرفى). ما الحكاية بالضبط؟

الكتاب اسمه «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين»، ومؤلفه هو الأستاذ فى مدرسة باريس للاقتصاد، الاقتصادى الفرنسى الكبير توماس بيكيتى. لكن ما الذى يمكن أن يوجد فى الكتاب ليستوجب أن يتهم الكتاب ومؤلفه بأنهما يمثلان خطرا كبيرا على النظام الاقتصادى العالمى؟

•••

يقوم الكتاب على معادلة أساسية، يثبتها بشكل إحصائى مبهر، وباستخدام بيانات موزعة على فترة تاريخية ممتدة. جوهر هذه المعادلة هو أن معدل ربحية رأس المال، يزيد دائما ــ فى جميع الظروف، وفى كل الأوقات ــ عن معدل النمو العام للإنتاج، سواء كنا فى فترات رخاء، أم فى فترات أزمة اقتصادية. ما معنى ذلك؟ معنى ذلك ببساطة أن الثروة دائما ستتركز أكثر وأكثر فى يد القلة.

هذه النتيجة البسيطة ولكن الحاسمة، استنادا لمعلومات وإحصاءات صلبة يصعب دحضها، قلبت الدنيا، واستوجبت إعلان «النفير» فى الصحف اليمينية للرد عليه، وصولا لمحاولة اغتيال الكاتب معنويا. لكن، ما دام الرجل قد أقر واعترف أنه ليس ماركسيا (لا سمح الله!!) ومؤمن بالاقتصاد الحر، لماذا يمثل هذا الكتاب «خطرا عالميا» على النحو الذى تقوله وسائل الإعلام اليمينية؟ الأمر يرجع لسببين:

أولا: أن الفرضية الأساسية التى تقوم عليها الدعوة للاقتصاد الحر، والسوق المنفلت من أى قيود، هى أن النمو الاقتصادى بطبيعته يشمل الجميع وأن معدلات الاستفادة من النمو تتناسب عكسيا مع حجم الدخل، وهذا ما يسمى فى كتب الاقتصاد المدرسية بقانون التساقط Trickle Down Effect، ومفاده ببساطة أن الهوة بين الأغنياء والفقراء ستتناقص مع مرور الزمن.

هذه الفكرة ضرورية جدا للتبشير «بالحلم الرأسمالى»، وجوهره أن الكل سيصبح غنيا بقليل من الصبر والكفاح. لكن هذا الكتاب ينسف هذه الفكرة من جذورها ويثبت بشكل حاسم أن الأغنياء سيزدادون ثراء.

ثانيا: المسألة ليست فقط قضية أن الكتاب يفسد «الحلم الرأسمالى»، أو أن الكتاب هو مجرد نداء أخلاقى للمزيد من العدالة فى توزيع الثروة. القضية أخطر كثيرا. لماذا؟ لأن مشكلة تركز الثروة فى يد القلة، ليست فقط مشكلة «عدالة توزيع»، وإنما هى أيضا مشكلة «إنتاج». تركز الثروة فى يد القلة يفسد عجلة الإنتاج. كيف؟

لأن النظام الرأسمالى كله قائم على أن يتم بيع ما ينتجه من سلع وخدمات، لتكتمل الدورة ويربح الجميع. لكن لو تركزت الثروة فى يد القلة، فسيعنى ذلك أن القوة الشرائية لعموم الناس ستتراجع مع مرور الزمن، لأن الثروة تتركز فى يد الأقلية الأكثر ثراء، وبالتالى سيقل المتاح منها لعموم الناس، أى لعموم المستهلكين، وسيؤدى ذلك بطبيعة الحال لتراجع قدرتهم على شراء الإنتاج الذى يتضخم مع مرور الوقت.

فالتطور التكنولوجى يزيد بطبيعة الحال قدرتنا على الإنتاج، لكن تركز الثروة فى يد الأغنياء فقط يقلل من قدرتنا على استهلاك ما ننتجه. والنتيجة؟ النتيجة هى الكساد، الذى هو بالتعريف الاقتصادى، عبارة عن زيادة الإنتاج المعروض عن الطلب، وعن قدرة المستهلكين على شرائه، مما يؤدى لكساد المنتجات، وظهور الأزمات الاقتصادية.

هل هناك شواهد من واقعنا المعاش تعزز هذا الكلام؟ نعم. فهذا بالضبط ما نشهده بشكل دورى ومتسارع فى السنوات الأخيرة. كيف؟

احتاج الأمر مثلا لأربعين سنة بين الكساد الكبير (1929-1930) وبين الأزمة الاقتصادية التالية (سنة 1971 عند فك ارتباط أسعار الدولار والذهب). أما منذ بداية عقد التسعينيات (أى فى السنوات الأربع وعشرين الأخيرة) فقد شهدنا خمس أزمات مالية كبيرة (سنة 1992 فى أوروبا، وسنة 1997 فى آسيا، ثم سنة 1999 فى روسيا والأرجنتين، ثم سنة 2001 فى الولايات المتحدة مع انهيار أسعار أسهم شركات التكنولوجيا والعقارات، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية التى بدأت سنة 2008 ولم تنته حتى الآن!!).

•••

نحن إذن لسنا فقط أمام معدل أكبر لتكرار الأزمات، ولكن كل أزمة أيضا كانت أكثر حدة من سابقاتها. خطورة هذا الكتاب هو أنه يثبت لنا بشكل حاسم أن مثل هذه الأزمات ليست أمرا طارئا، وإنما تنتج عن قانون أساسى فى صلب النظام الرأسمالى نفسه.

لكن ما دلالة ذلك بالنسبة لمصر؟

أولى الدلالات هى أنه فى مصر، التى رفعت ثورتها شعار «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، لا يعد مطلب العدالة الاجتماعية مجرد ضرورة أخلاقية ووطنية لتصحيح خلل كارثى فى توزيع الثروة فى بر مصر، ولكنها أيضا ضرورة لأى تنمية حقيقية. فالعدالة ليست منة نلتفت لها فى أوقات «الفراغ الاقتصادى» وبعد أن نحقق النمو أولا، وإنما هى شرط لحدوث النمو والتقدم الذى يستفيد منه عموم المواطنين.

الدلالة الثانية هى أن من يبيعنا اليوم حلم «عودة المباركية» عبر السوق المنفلت، وإزالة دعم الفقراء، والخصخصة المعفية من الرقابة الشعبية والمحاسبة، بذريعة تشجيع الاستثمار واستعادة النمو، ومن ثم اتساع الرخاء ليشمل «البسطاء»، هو إما جاهل (وهذا احتمال وارد)، أو نصاب (احتمال وارد جدا)، أو الاثنان معا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved