نتنياهو والمشاهد المتغيرة والهدايا

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 10:55 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «غسان شربل» وجاء فيه:

يتوجه الناخبون الإسرائيليون إلى صناديق الاقتراع، فى انتخابات يرجح المتابعون ألا تسفر عن إعادة فتح باب البحث عن سلام نجحت فى إغلاقه سياسات إسرائيلية متشددة، ومشاهد دولية متغيرة. ويميل المراقبون إلى الاعتقاد أن الانتخابات تدور حول موقع بنيامين نتنياهو على خريطة كبار اللاعبين الإسرائيليين أكثر بكثير مما تدور حول فرص السلام. وعلى الرغم من صعوبة التكهن، فى ضوء طبيعة النظام الانتخابى، فإن كثيرين يعتقدون أن استمرار نتنياهو فى رئاسة الحكومة مرجح، سواء عبر تشكيلة يمينية أكثر تشددا أو عبر حكومة «وحدة وطنية» ينادى بها دعاة استقبال «صفقة القرن» بموقف موحد يحظى بدعم واسع. وحتى لو حصلت مفاجأة لصالح تحالف «أزرق أبيض» الذى يوصف بأنه «يمينى وسطى»، بزعامة بنى جانتس ويائير ليبيد ــ فإن المحللين يرجحون ألا تخرج حكومة من هذا النوع فى موقفها من السلام عن القواعد العامة التى فرضها نتنياهو.
يساعد استذكار بعض المشاهد فى العقود السابقة على إدراك حجم التدهور الذى أصاب فكرة قيام سلام عادل يستحق التسمية، ويوفر الحد الضرورى من الحقوق الذى يجعله قابلا للقبول والاستمرار.
من حق الرئيس محمود عباس أن يتوقف عند الفارق الهائل بين مشهد قديم والمشهد الحالى. المشهد القديم هو صورة ياسر عرفات وإسحق رابين يتصافحان فى 13 سبتمبر 1993، فى حديقة الورود فى البيت الأبيض، وبينهما الرئيس بيل كلينتون. مصافحة تاريخية بين رجلين يمتلك كل منهما شرعية كاملة فى معسكره. مصافحة كانت ترمى ــ كما قيل يومها ــ إلى «هدم جدار العداء، والاعتراف بالآخر وحقوقه ومخاوفه». وبعد ذلك المشهد، لا بدَّ من تذكر اغتيال رابين، ولاحقا مشهد عرفات محاصرا فى مقره.
ولا حاجة إلى الخوض فى التفاصيل لإثبات المسافة الهائلة بين مشهد عرفات عائدا إلى أرضه وشعبه، والمشهد الفلسطينى الحالى الكئيب الموزع بين الانقسام العميق وتكاثر المستوطنات، وتراجع الاهتمام الدولى وانشغال دول المنطقة بجروحها ومخاوفها. وفى المسافة الفاصلة، واصلت إسرائيل اغتيال فرص السلام والتهام الأرض، ونجحت فى توظيف الأحداث التى هزت العالم والإقليم فى إضعاف الشريك الفلسطينى وشطبه.
مشهد آخر تساعد العودة إليه فى إظهار حجم الفارق بين الماضى والحاضر. فى 26 مارس 2000، احتشد مئات الصحفيين فى فندق إنتركونتيننتال فى جنيف، لمتابعة وقائع اللقاء بين الرئيس بيل كلينتون والرئيس حافظ الأسد. كان لمجرد عقد اللقاء فى جنيف معنى يتعلق بأهمية سوريا، وأهمية الالتفات إلى ثقلها وحقوقها. قبل اللقاء، اتفق على مجموعة مبادئ، بينها الانسحاب الإسرائيلى الكامل من الجولان، وقيام علاقات سلام طبيعية بين البلدين. وثمة من يقول إنه تم الاتفاق على أن تكون السفارة الإسرائيلية فى يعفور، خارج العاصمة السورية، لتفادى رفع العلم الإسرائيلى فى دمشق نفسها. الجدل الذى دار خلال اللقاء دار حول شريط ضيق يتعلق بشاطئ بحيرة طبرية، خصوصا بعدما شدَد الأسد على أن الجنود السوريين كانوا يغسلون أقدامهم فى مياهها قبل الاحتلال. تعثر اللقاء بسبب الشريط، وثمة من يقول إن الأسد الذى كان مريضا، وفضل ألا يستهل وريثه عهده بالسلام مع إسرائيل وتبعاته.
لا حاجة إلى أى مقارنة بين ما كانت عليه سوريا التى ذهب رئيسها إلى جنيف لمفاوضة كلينتون وما هى عليه حاليا؛ سوريا التى تتوزع على أرضها أعلام غير سورية، وسط مشاهد الخراب والدمار وحرب لم يكتب فصلها الأخير بعد.
ثمة مشهد آخر لافت فى بدايات القرن الحالى. فقد أقرت القمة العربية التى عقدت فى بيروت فى 2002 المبادرة العربية للسلام، التى تقوم على مبدأ الأرض فى مقابل السلام وحل الدولتين. ولم يكن التوصل إلى صوغ المبادرة سهلا، والأمر نفسه بالنسبة إلى تمريرها فى القمة.
لا مبالغة فى القول إن نتنياهو لعب فى العقد الماضى دورا بالغ الخطورة فى اغتيال معانى المشاهد السابقة، وفى اغتيال ركائز السلام العادل.
ولا حاجة أيضا للخوض فى التحليلات، يكفى استرجاع بعض المشاهد فى السنوات الأخيرة، وهى تحولت هدايا يسعى نتنياهو إلى تحويلها فرصة للبقاء فى موقعه على رأس الحكومة. مشهدان أمريكيان فى هذا السياق: المشهد الأول إعلان الرئيس دونالد ترمب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهى خطوة سعى أسلافه دائما إلى تفاديها، فى محاولة منهم للاحتفاظ بدور «الوسيط النزيه». وعلى مقربة من الانتخابات المقررة غدا، تلقى نتنياهو هدية استثنائية، تتمثل بإعلان واشنطن اعترافها بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، من دون التوقف عند مقتضيات القانون الدولى، وقرارات الشرعية الدولية.
وكاد نتنياهو يرتبك من تسارع الهدايا التى حلت بين يديه. ليس بسيطا أن ينجح رئيس الوزراء الإسرائيلى فى أن يكون صديق البيت الأبيض والكرملين فى آن، وأن يخترق حرمة المظلة الروسية فوق سوريا، لشن غارات متلاحقة على أهداف إيرانية.
لم يبخل عليه الرئيس فلاديمير بوتين بالهدايا. فقبل أيام من الانتخابات، تسلم نتنياهو من روسيا رفات الجندى الإسرائيلى زكريا باوميل، الذى قتل خلال معركة مع الجيش السورى إبان الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى عام 1982. وقبل ثلاث سنوات، تسلم نتنياهو من روسيا دبابة إسرائيلية أسرتها القوات السورية فى ذلك الاشتباك، وأهدتها لموسكو لفك أسرارها. وتدخل أيضا فى باب الهدايا زيارة الرئيس البرازيلى بولسونارو لإسرائيل، والتهدئة الأخيرة على الحدود مع غزة.
دفعت الهدايا نتنياهو إلى الذهاب بعيدا، خصوصا لتغطية تهم الفساد التى تلاحقه. آخر وعوده للناخبين كانت تعهده بالعمل لضم الكتل الاستيطانية فى الضفة إلى إسرائيل، فى حال ترؤسه الحكومة الجديدة.
واضح أن الانتخابات الإسرائيلية تدور حول مستقبل نتنياهو، لا حول مستقبل السلام. فوزه بولاية حكومية خامسة سيمكنه من تخطى ديفيد بن جوريون نفسه، ليصبح صاحب أطول إقامة فى مقر الحكومة الإسرائيلية، وهو ما عجز عنه كبار الجنرالات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved