داعش تقتل دول العرب بخطايا أنظمتها

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 8 يوليه 2015 - 10:45 ص بتوقيت القاهرة

ترسم خريطة «الوطن العربى»، بمعظم أقطاره، فى هذه اللحظة، بدماء أبنائه.

***
ما بين اليمن فى أقصى الشرق وتونس فى المغرب العربى، مرورا بالعراق وسوريا (من غير أن نغفل ما حدث ويتوقع أن يحدث بعد فى السعودية والكويت وصولا إلى مصر عبر سيناء وفيها، فإلى ليبيا)، طوفان من الدماء المهدورة تغطى وجه الحاضر وتثير مخاوف جدية على مستقبل الشعوب والكيانات السياسية فى هذه المنطقة.

تفجرت الأنظمة الحاكمة من داخلها، بعيوبها التكوينية كما بتداعيات الإرث الدموى الذى خلفه من أمسك بالسلطة قبلها ممزقا وحدة الشعب (كما فى العراق).. فى حين كشف أخذه بالتحولات الاقتصادية التى أنهت أسطورة «الحكم الاشتراكى» أن أهل النظام الذين كانوا يهيمنون على السلطة ومصادر الثروة تحولوا – بلا جهد، أو تمهل، أو ندم – إلى فلاسفة يبررون العودة إلى «الاقتصاد الحر» بوصفهم أخبر الخبراء فيه.

ومؤكد أن فكرة الاشتراكية ومن ثم تطبيقاتها لم تتعرض إلى تشويه مدمر كالذى نالها على أيدى الأنظمة العربية التى زعمت تصديها لقيادة التحول الاشتراكى بدءا من «دولة جنوب اليمن» التى سقطت بالضربة القاضية قبل أن تكتمل مبررات وجودها، مرورا بالعراق وسوريا... فى حين كان السادات قد تكفل بإنجاز التحول فى مصر مسبغا على العودة إلى النظام الرأسمالى إعلان التوبة عن خطأ التدخل فى المقادير وإرادة الله: أليس جل جلاله هو من يعطى ما شاء لمن يشاء؟.

***

ومفجع أن يتحول العراق، وهو بين الأغنى فى بلاد الله بالثروات الطبيعية (نهران كبيران فى «أرض السواد» الخصبة، وحقول نفط هائلة التدفق والاحتياط) إلى بلد فقير، تعجز حكومته الحالية عن إعداد موازنة، وتلغى الأنفاق على مشاريع تنموية ضرورية مقررة، بينما هى تخوض حربا شرسة ضد أعتى تنظيمات الإرهاب بالشعار الإسلامى «داعش»... مع التنويه بأن هذا التنظيم قد كسب فى «غزوة» الموصل نحو خمسمائة مليون دولار، كانت فى خزينة المحافظة، إضافة إلى ارتال من الدبابات والمصفحات والمدافع فضلا عن السلاح الخفيف وكميات هائلة من الذخائر.. ثم الأرض وما فيها ومن عليها.

الملفت أن حكم الطغيان والحروب العبثية ممثلا بعهد صدام حسين قد تسبب فى تسليم العراق إلى الاحتلال الامريكى، وفى ظله تم استبدال «الهيمنة السنية» «بهيمنة شيعية».. فإذا الطرفان يتباريان على موقع الأعظم فسادا وإفسادا كما فى المسئولية عن تعريض وحدة الشعب إلى خطر التمزق على قاعدة مذهبية، بعدما كان الأكراد قد ذهبوا إلى مشروع دولتهم فى كردستان العراق، فحصدوا جوائز الدولة المركزية فى بغداد ومعها إسناد القوى الدولية التى لا تريد عراقا موحدا.. وهكذا باتت اربيل مجمعا لكل المستفيدين من اللعب على صراع الأعراق والعناصر والقوميات، وفيهم بعض العرب والترك والغرب والشرق معا، وقبلهم وبعدهم إسرائيل.

.. فلما اندفعت جحافل «داعش» آتية عبر الحدود التركية، كما من «قاعدتها الأولى» فى «الرقة» السورية التى بناها فى زمن الزهو بالفتوحات الخليفة العباسى هارون الرشيد، لم تجد من يصدها أو يوقف زحفها.

وانهالت الأسئلة: «كيف تمكنت تلك الجحافل من قطع مئات الكيلومترات من دون أن يتصدى لها أحد فيصدها؟ من سلحها ومن مولها؟ وأين دربت مجموعاتها وأتمت حشدها؟ ثم من يقودها بكفاءة الخبير المدرب العارف بطبيعة الأرض وناسها؟.

وسرعان ما تبين أن الكتلة الكبيرة من هذا الحشد، ومن قياداته بالتحديد هم من الضباط العراقيين الذين كانوا فى مراكز حاكمة إبان عهد صدام حسين، والذين تم تسريحهم بغير مبرر معلن قابل للتصديق، الا كونهم من «اهل السنة»، ثم جىء بمرءوسيهم من «الشيعة» ليحلوا محلهم، بمعزل عن الكفاءة والأهلية.

انشق العراق على قاعدة مذهبية – عنصرية، فانهارت دولته، ثم ذهب الفساد نادر المثال بحجمه وبشموله، بما تبقى من روابط تؤكد وحدة شعبه الذى غرق فى مستنقع الفتنة التى قد يستهلك تجاوزها زمنا طويلا، بينما الوقت فى مصلحة الدواعش الذين يعملون بلا كلل على النفخ فى أسطورة «خلافتهم».. مستفيدين فى ذلك من سياسة بعض الأنظمة التى تعتمد الفتنة خطة لحماية وجودها وتأمين مداها الحيوى، ولو تطلب الأمر إغراق جوارها بدماء أهله.. المسلمين! (اليمن نموذجا).

***

وبالتأكيد فإن الحرب فى سوريا وعليها ما كانت لتأخذ هذه الأبعاد الدموية الهائلة، المغطاة بقشرة من السياسة لتمويه حقيقة الصراع وإعطائه البعد الطائفى بالتركيز على «الهيمنة المذهبية» التى جعلت السلطة فى أيدى «العلويين» مستبعدة «الأكثرية السنية» عن مركز القرار، لولا انفجار أو تفجير العراق بالفتنة المذهبية.

وكان بين ما سهل تبرير «الثورة» قصور النظام فى المعالجة، خصوصا وقد كان تخلى عن الشعارات الاشتراكية وحكم الحزب الواحد الذى لم يكن فى أى يوم حزبا، عائدا إلى رأسمالية الدولة، فاتحا الأبواب أمام المستثمرين ووكلاء الشركات الأجنبية، على أن يكون لهم من بعض أهله «شركاء».

فالوحدة الوطنية لا تقوم بالأمر، خصوصا مع شبهة استئثار فئة معنية بالسلطة، تحاول عبثا أن تغطى تحكمها بالشعار الحزبى الذى أسقطه مرور الزمن وهيمنة «الأجهزة» على مختلف وجوه النشاط، سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

ثم إن دولا عديدة كانت قد دخلت فى خصام مع هذا النظام، ربما لأنها عجزت عن الهيمنة على قراره، أو لأنها فشلت فى تعديل توجهاته السياسية... وهكذا اندفعت قطر إلى تمويل المعارضات السورية وتسليحها. ثم سرعان ما انضمت إليها تركيا التى كانت «الصديق المقرب» فانقلبت إلى العداء المكشوف الذى يقارب حافة الحرب، ومن بعد انضمت السعودية مغلبة فى الخصومة الذريعة المذهبية على التوجه السياسى.

وبالتالى بات من السهل استخدام السلاح الطائفى المسموم، فى سوريا بعد العراق، ورفع الصوت بظلامة «أهل السنة»، بعيدا عن «السياسة» ومن خارجها.

... وهكذا جاءت «عاصفة الحزم» التى تم التركيز فيها على «الحوثيين»، باعتبارهم من سادة «الزيود» الذين يعتبرون أقرب – مذهبياــ إلى الشيعة، فتم إخراج الصراع من طبيعته السياسية ليغدو حرب الأكثرية الساحقة السنية فى المشرق العربى ضد الأقلية الشيعية، بعد دمغها بالولاء لإيران.

ومن السهل فى هذه الحالة، تحميل إيران (الشيعية) المسئولية عن «القهر» الذى بات يعانى منه (السنة)، فى العراق وسوريا، وأخيرا فى اليمن، مما يذر بذور الفتنة الكبرى ــ مرة أخرى ــ على امتداد المشرق جميعا... لا سيما فى غياب مصر التى كان مسلما لها بدور المرجعية السياسية، والتى كانت – بحجمها ودورها القيادى وبإسلامها المعتدل ــ توفر الطمأنينة للخائف والضمانة للمستريب.

***

باختصار، نحن أمام واقع جديد فى المشرق العربى: هناك دولتان مركزيتان، العراق وسوريا، معتلتان، وتواجهان – بقوة السلاح ــ خطر أفظع إرهاب مسلح يتلطى تحت الشعار الإسلامى، ويلتقى – موضوعيا ــ مع دول يقوم حكمها على فرضية أنها مصدر الدين الحنيف وحاميته... وقد تصادف أنها الأغنى، وإنها ــ بثرواتها ــ تمثل مصالح إستراتيجية وحيوية للغرب أساسا، وللشرق الروسى ــ الصينى الذى هجر الشيوعية ودخل فى المنافسة مع أهل الرأسمالية.

...وتصادف أيضا أن «دولة المركز»، مصر، مشغولة بهمومها الاقتصادية أساسا، ومعها الأمنية الثقيلة، بعد اقتراب «داعش» من حدودها، عبر سيناء، كما عبر ليبيا... وما الأحداث الدموية الثقيلة التى شهدتها بعض المناطق فى سيناء إلا جرس إنذار بأن هذا التنظيم الإرهابى يحاول – بالسلاح – أن يعيد أسلمة المسلمين فى مصر، وإخراجهم من اعتدالهم لبث الفتنة فى البلاد التى عرفت بصفاء تدينها وتسامح أهلها والتى لعبت دور القيادة فى زمن الصعوبة لامتها العربية، كما تصدرت الدول الإسلامية بأهليتها.

إنها الحرب على العروبة والإسلام معا. ومن أسف فإن بعض القادة فى دول العرب والمسلمين يوفرون لهذه الحرب الذخيرة السياسية والحربية انطلاقا من أحقادهم ومن قصور أهليتهم عن لعب الدور القيادى المطلوب للخروج بهذه الأمة من مأزقها الخطير حيث إعادة اسلمة أهلها بالمسلمين وإخراجهم من عروبتهم بالقوة لا يعنى إلا تدمير المستقبل عبر اغتيال الحاضر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved