الظلال الأوكرانية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 8 مارس 2014 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

عندما تستقر الأزمة الأوكرانية على تسوية ما فإن اختبارات القوة التى شهدتها سوف تتمدد ظلالها إلى مصر ومحيطها.

فى اختبارات القوة مواجهات فى الشوارع وانقلابات فى بنية السلطة.. استعراضات نفوذ ومال وسلاح.. وحسابات استراتيجية متضادة على خرائط قلقة.

شىء ما جديد ومختلف يتحرك فى المساجلات الاستراتيجية بين القوى الكبرى عن كل ما اعتاده العالم بعد نهاية الحرب الباردة مطلع التسعينيات من القرن الماضى.

حدود التغيير فى قواعد اللعبة الدولية تخضع للتجربة الميدانية فى بلد أوروبى على درجة عالية من الأهمية الاستراتيجية للأطراف المتصارعة كلها.

فى إطاحة الرئيس الأوكرانى وتغيير القيادات العسكرية الكبرى تجاوز للمصالح الروسية باسم انتفاضة شعبية جديدة فى العاصمة «كييف» وفى الاحتلال العسكرى الروسى لشبه جزيرة القرم تجاوز آخر للقانون الدولى واتفاقيات موقعة ضمنتها موسكو لسلامة الأراضى الأوكرانية بعد تدمير مخزونها النووى عند استقلالها عن الاتحاد السوفيتى السابق.

فى الحالة الأولى تدخلت الدول الغربية لإقصاء النفوذ الروسى ودعمت انقلابا برلمانيا يخالف الدستور دون أدنى اعتبار لحقائق أساسية على الأرض أهمها أن التنوع السكانى لا يسمح لطرف أن يستأصل الآخر تحت أى ذريعة.. فالمناطق الشرقية والجنوبية تقطنها أغلبية روسية تدين بالولاء لموسكو بينما السكان الآخرون أوروبيون يناهضون الكرملين وحاكمه «فلاديمير بوتين».

وفى الحالة الثانية حاولت روسيا أن تستخدم قدرا من القوة المسلحة لاستعادة شىء من التوازن فى المنازعة السياسية الحرجة التى تعرض مصالحها الاستراتيجية لخطر داهم، فنزع نفوذها فى أوكرانيا يهدد من ناحية تمركز أسطولها فى البحر الأسود ويهدد من ناحية أفدح أية فرصة أمامها لاستعادة دور الدولة الكبرى فى العلاقات الدولية.

فى الحالتين هناك حدود للقوة، فلا روسيا تقدر أن تطور عملياتها العسكرية إلى أبعد مما وصلت إليه بدون أثمان فادحة تنال منها قبل غيرها ولا الغرب يحتمل حربا اقتصادية مفتوحة تضره قبل غيره.

فى التوسع العسكرى انزلاق إلى مواجهات غير مأمونة فى نتائجها الاستراتيجية وتصعيد مع القوى الأوروبية يكلفها تراجعا موجعا فى اقتصادها الذى تعرض العام الماضى لتراجع.

وفى العقوبات الاقتصادية أضرار فادحة متبادلة تؤكدها الأرقام الرسمية لأحجام التجارة ما بين روسيا وكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى.. وهناك سلع استراتيجية يصعب الاستغناء عنها مثل الغاز الروسى للاتحاد الأوروبى الذى يمثل ربع احتياجاته، وبالنسبة لألمانيا فإنها تعتمد عليه بصورة شبه كاملة.

هناك حدود للقوة بتجلياتها المختلفة، المصالح الاقتصادية المشتركة تردع وعدم القدرة على الحسم المنفرد يردع وخشية الفوضى توقف الصراع عند حدود لا يتعداها.

لا يمكن لطرف ما أن يتصور الصراع صفريا يحصد فيه كل شىء أو لا يحصد شيئا على الإطلاق.

فى سباق الحسابات المتعارضة تضع الحقائق خطوطها الحمراء فى الفضاء السياسى والقاعدة الرئيسية حتى الآن: الكسب بالنقاط لا بالضربات القاضية وأن تظل الأزمة محكومة فى الأطر السياسية للتوصل إلى تسوية تضمن بدرجة ما مصالح كافة مكونات الحياة السياسية والاجتماعية الأوكرانية.

فى التوجه الروسى لتخفيض التوتر رسالة مضمرة أرادت أن تقول: خطوة عسكرية واحدة تكفى لرسم خط أحمر فى فضاء الأزمة بأن موسكو هنا ولا يملك أحد أن يتجاهل مصالحها الاستراتيجية.

وفق «زبجينيو بريجينسكى» مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق على عهد «جيمى كارتر» فإن «بوتين» أخطأ حساباته وبالنسبة لـ»بوتين» نفسه فإنه لم يكن لديه خيار آخر.

بشىء من الاختزال فقد تجلت على المشهد الأوكرانى مجازفتان استراتيجيتان محكومتان إحداهما أوروبية والأخرى روسية.

منطق المجازفة المحكومة استدعى إلى الذاكرة الأوروبية أجواء الحرب الباردة وبدت الأزمة الأوكرانية ذاتها هى الأخطر منذ نهاية هذه الحرب.

لا يعنى ذلك أن استنساخها بصورة جديدة ممكن أو متاح. فتلك الحرب بمقوماتها لم يخترعها أحد وفق تصميم مسبق ولا ولدت قواعدها بين يوم وليلة. إنها مسألة حقائق القوة فى عصرها.

فالعالم انقسم بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين متضادين على مستوى الأيديولوجيات التى تحكم والنظم الاقتصادية التى تسود والقوى العسكرية التى تنتظم فى حلفى «الناتو» و«وارسو».

الصراع على النفوذ بامتداد خريطة العالم استقر على قاعدة صاغها الزعيم السوفيتى الحديدى «جوزيف ستالين»: «من ليس معنا فهو ضدنا».

نحت الصراعات بين القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى طوال سنوات الحرب الباردة إلى تجنب المواجهات العسكرية المباشرة وخوض الحروب بالوكالة ومحاولة تقويض صورة الآخر وأن يطرح كل طرف على العالم نموذجه السياسى والاقتصادى كخيار وحيد للمستقبل. هذا العالم لم يعد موجودا الآن واستدعاء الصور القديمة أقرب إلى استشعار أن شيئا مختلفا يولد فى بنية العلاقات الدولية دون أن تستبين حتى الآن قواعده.

بمعنى آخر لا الحرب الباردة عائدة إلى المعادلات الدولية لأن عصرها قد انقضى ولا القرن الحادى والعشرين هو قرن أمريكى جديد يتحكم البيت الأبيض فى مصائره وحده.

بعد وقت قصير من نهاية الحرب الباردة بدأت تتحرك مراكز نفوذ جديدة على الساحة الدولية، الاتحاد الأوروبى بنزعته النسبية لبناء رؤية سياسية على شىء من الاستقلال تخص دوله، وروسيا باستعادة شىء من عافيتها الاستراتيجية والاقتصادية مع صعود رجلها القوى «بوتين»، والصين بقفزتها الاقتصادية الكبرى إلى مستوى منازعة الولايات المتحدة على المركز الأول، ودول أخرى فى الشرق الأسيوى كـ«الهند» والعالم اللاتينى كـ«البرازيل» تؤكد حضورها الاقتصادى، والأوزان الاقتصادية تترجم نفسها فى النهاية بأوزان سياسية.

الافتراضات التى تلت الحرب الباردة وضعت مرة واحدة تحت الاختبار فى الأزمة الأوكرانية.. وما يتمخض عنها من نتائج ينعكس على العالم وأزماته ومن بينها أزمات الشرق الأوسط.

بالنسبة للاتحاد الأوروبى فإنه منشغل بحريق فى بيته وقد تنخفض حركته الشرق أوسطية لبعض الوقت.

بالنسبة للإدارة الأمريكية فإن الأزمة أربكت أولوياتها، فالملف السورى تراجع على جدول أعمالها والمنازعة مع روسيا الطموحة اتسع مداها.

لو أن روسيا نجحت بصورة ما فى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية بالبحر الأسود فإنها سوف تنظر بعناية أكبر إلى المصالح ذاتها فى البحر المتوسط ويرتفع منسوب دورها فى الملفين السورى والإيرانى. ولو أن حضورها الاستراتيجى قد تعرض لأضرار فادحة فى أوكرانيا فإنها سوف تندفع إلى الشرق الأوسط فى محاولة لمنع تصدع دورها الدولى.

بحسب تسريبات عن مسئولين روس فإن موسكو مستعدة أن تمضى فى علاقاتها المصرية إلى الحد الذى تتوقف القاهرة عنده.

بالمقابل فمن المتوقع أن تحسم الإدارة الأمريكية مواقفها لقطع الطريق على الطموح الروسى.

هناك الآن اتجاهان داخل الإدارة الأمريكية تجاه الأوضاع المصرية الحالية.. وزارة الخارجية الخارجية والبنتاجون فى ناحية.. ومجلس الأمن القومى الأمريكى والمجموعة الملتفة حول الرئيس «باراك أوباما» فى ناحية أخرى.

الاتجاه الأول يميل إلى الواقعية بما يحفظ المصالح الاستراتيجية الأمريكية.. والاتجاه الثانى يضغط من أجل تطويع السلطة المصرية وإعادة دمج جماعة الإخوان المسلمين فى الحياة السياسية.

فى الظلال الأوكرانية من المرجح للغاية حسم الخيارات الأخيرة وفق الاعتبارات الواقعية وحدها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved