العرض والطلب فى الديمقراطية

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الأحد 8 مارس 2009 - 6:49 م بتوقيت القاهرة

لن نسأل السفير محمد الضرغامى، ووفده إلى الولايات المتحدة وكندا فى شهر يناير الماضى: من منحكم توكيلا باسم الشعب المصرى لتعلنوا بالفم المليان أنه لا يوجد طلب على الديمقراطية فى مصر، بسبب غياب ثقافة الديمقراطية من الأصل؟

لن نسأل السفير الضرغامى، مساعد وزير الخارجية السابق، والسفراء أو الدبلوماسيين الستة الذين صحبوه، هذا السؤال، لأن الإجابة معروفة سلفا، وهى أنهم لم يكونوا يتحدثون باسم الشعب المصرى، وإنما كانوا يتحدثون باسم الحكومة المصرية التى أوفدتهم للحوار مع المصريين فى كندا والولايات المتحدة، بحثا عن حلول غير تقليدية لمشكلاتهم، حسب البيان الرسمى، وترويضا لهم قبل الزيارة المرتقبة للرئيس حسنى مبارك لواشنطن، حسب البيان غير الرسمى.

ثمة سبب ثانٍ لعدم توجيه السؤال إلى وفد الخارجية المصرية، وهو أن الرأى القائل بانعدام الطلب على الديمقراطية فى مصر بسبب عدم توافر ثقافتها أو شروطها ليس وقفا على الخارجية ورجالها، وإنما يكاد يكون هذا هو الرأى المجمع عليه فى جميع مؤسسات السلطة التنفيذية فى بلادنا، بل المؤسف أكثر، أن هذا الرأى يسود لدى قطاع كبير من المثقفين والنواب، وقال به علنا أكثر من علم من أعلام العلوم السياسية، وعلى رأسهم الدكتور بطرس بطرس غالى، أستاذ أساتذة هذه العلوم، وقال بمثله الدكتور على الدين هلال، الأمين العام المساعد للإعلام فى الحزب الوطنى حاليا، ونجم النشاط السياسى بجامعة القاهرة فى الستينيات والسبعينيات، وذلك فى حديث صحفى شهير اعتبر فيه أن المطالبين بالإصلاح الديمقراطى هم فئة قليلة من النخبة تكفى سلالم نقابة الصحفيين لجمعهم عن بكرة أبيهم، وأن المطالب الحقيقية للغالبية الصامتة فى مصر شىء غير ذلك، مثل الإصلاح الاقتصادى والتنمية، وتحسين الخدمات، وعدالة توزيع الثروة.

عند هذا الحد يصبح السؤال: «من أعطى هؤلاء المتحدثين ــ مع الاحترام الكامل لأشخاصهم وخبراتهم ــ حق الحديث باسم الشعب المصرى؟»، سؤال لا معنى له، وإنما السؤال الأجدى هو: هل حقا لا يوجد طلب على الديمقراطية من جانب غالبية الشعب المصرى؟ وهل حقا تغيب ثقافة وشروط الديمقراطية فى بلدنا؟ لكن قبل كل ذلك ما هى أصلا شروط الديمقراطية، حتى نعرف ما إذا كانت متوافرة فى مصر، أم أنها غير متوافرة؟ وما هو المقياس الذى استند إليه أصحاب هذا الرأى، أو أين هى الدراسات التى أجروها، فأثبتت صحة مقولتهم؟!

لا توجد قطعا دراسات، كما لا يوجد اتفاق على شروط بعينها لتوافر الطلب على الديمقراطية، بل لا يوجد أصلا نموذج موحد لتطبيق الديمقراطية، لكن هناك مؤشرات، وخبرات تاريخية، وهى كلها فى حالة مصر تؤكد أن الطلب على الديمقراطية مرتفع جدا، وأن المشكلة كانت ولاتزال هى نقص عرض الديمقراطية، وليس نقص الطلب عليها.

البحث عن الديمقراطية بمعناها «التمثيلى» أو النيابى فى القرن الـ19، كان من أهم مفاصل التطور السياسى فى مصر بقيادة الثورة العرابية، التى لم تكن إلا طليعة لنخبة مدنية أرادت المشاركة فى السلطة والقرار، والحكم الدستورى كان مطلبا متلازما مع مطلب الاستقلال الوطنى فى المخاض السابق على ثورة 1919، وبعدها، ولم تفشل الديمقراطية الليبرالية التى أسسها دستور 1923 لأن الشعب أفسدها، أو لنقص الطلب العام على الديمقراطية، ولكن لأن أصحاب السلطة لم يقتنعوا يوما باحترام إرادة هذا الشعب، لاسيما القصر الملكى بالتحالف أو التباغض مع السفارة البريطانية، أى أن المشكلة هنا كانت فى جانب العرض وليست فى جانب الطلب، وتأكيدا لهذه الملاحظة، فإن الناخب المصرى، المتهم بعدم توافر ثقافة الديمقراطية لديه، أثبت العكس تماما فى كل انتخابات حرة جرت فى العهد الملكى، فاختار دائما حزب الوفد، ممثل الوطنية والدستورية والعلمانية فى السياسة، وممثل الطبقة الوسطى فى الاجتماع والاقتصاد.

ولم يكن الوفد يخرج من السلطة إلا بقرار ملكى تتويجا لمؤامرة تشارك فيها السراى وأحزاب الأقلية والسفارة البريطانية، وهؤلاء جميعا يقفون فى جانب العرض وليس فى جانب الطلب فى المسألة الديمقراطية، وكان هذا النقص فى عرض الديمقراطية هو ما جاء بالضباط الأحرار إلى السلطة فى ثورة 1952.

سؤال آخر نوجهه إلى أصحاب تلك المقولة: ما الذى ينقص مصر مقارنة بالهند مثلا فى شروط الديمقراطية؟.

كانت معدلات الفقر فى الهند أعلى، وكذلك معدلات الأمية، ولاتزال أسباب الصراع الاجتماعى والسياسى على أسس طبقية ودينية وطائفية فى الهند أكبر وأوسع من مثيلتها فى مصر بما لا يقارن، ومع ذلك فلم يتعلل أى سياسى فيها بغياب ثقافة الديمقراطية، أو بنقص الطلب عليها لإنقاص المعروض منها على الشعب، وإذا حاول البعض اعتبار الهند استثناء بين دول العالم الثالث، فما الرأى فى أن معظم هذا العالم تحرك فى العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة بخطى واسعة نحو الديمقراطية، من الفلبين وماليزيا وكوريا الجنوبية وإندونسيا حتى البرازيل والأرجنتين، مرورا بالسنغال وزامبيا وزيمبابوى.. إلخ.

وهى كلها مرت بمراحل مماثلة لما مر به التطور السياسى فى مصر من مراحل.. من حكم عسكرى إلى شبه عسكرى إلى حكم حزب واحد.. إلخ. ولكن الفرق كان هو استجابة النخب الحاكمة فى هذه البلدان إلى الطلب على الديمقراطية، بزيادة المعروض منها بالفعل، أما عندنا فلا توجد هذه الاستجابة فحسب، ولكن ينكر وجود الطلب من الأصل فى اعتذار أقبح من الذنب نفسه، لأنه يهين الشعب، ويعطى أصحاب هذا الاعتذار «حقا إلهيا» فى الوصاية عليه.

المدهش أكثر، أن دولة مثل الصين ــ لاتزال ترفض الديمقراطية التعددية ــ طبقت فى نظامها وحزبها آليات تسمح بتداول دورى للسلطة، وتتيح درجة معقولة من الرقابة والتوازن داخل النظام، وفوق كل ذلك تضع قواعد صارمة وناجعة لمكافحة الفساد، وهنا أيضا زيادة واضحة فى كمية المعروض من الديمقراطية.

بالمقارنة بهذه النماذج كلها، تعالوا نلقى نظرة على الحال فى مصر، ولسوف نجد أن إرادة الناخب لا تحترم من الأصل، فى الغالب الأعم، ثم سنجد أن الرقابة النيابية لا تحترم، وتبقى حبرا على ورق، أو هتافات تحت القبة، ثم إذا بالحكم المحلى يفرغ من مضمونه، أما تقارير جهاز المحاسبات، فهى للذكرى غير الخالدة، ويبقى الإعلام والصحف والنشاط الحزبى، والنقابى إما مطوعا أو مخترقا.. وهذه فقط بعض أوجه النقص فى المعروض على الشعب من الديمقراطية.

إن الموارد والطاقات الفكرية والتنظيمية التى تهدر فى إجهاض كل تحرك نحو الديمقراطية، كانت ستحقق الكثير للبلد ولنظام الحكم لو أنها استخدمت فى اتجاه حركة التاريخ، وليس فى الاتجاه المعاكس، ولما كان «الجهابذة» قد شغلوا أنفسهم بهذا الاعتذار المرفوض عن نقص الطلب على الديمقراطية لدى الشعب المصرى.. فى حقبة ينفجر فيها كل يوم طلب على الديمقراطية هنا وهناك على أرض المحروسة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved