الديكتاتورية بالأمر من العراق إلى السودان

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 7 أبريل 2010 - 10:09 ص بتوقيت القاهرة

 يتبدى المشهد العربى بائسا على امتداد هذه الأرض العربية الغنية، يغلفه الإخفاق الشامل على المستويات جميعا: السياسية والاقتصادية والثقافية ومن ثم الأمنية بطبيعة الحال.

تنداح الأرض العربية بين اليمن والمغرب وفى قلب أفريقيا وعلى شواطئها، وترتفع الرايات مزركشة الألوان، وتفخم الألقاب وتجلل.. ولا دول!

وحيثما كان هناك احتمال لقيام دولة قابلة للحياة، ضاعت الفرصة إما بسبب تعثر الحكم وفشله فى حماية وحدة شعبه، وإما لأن الحكم استغنى بنفسه عن شعبه، وخاض مغامرات تتجاوز قدراته فدمر وطنه، لكنه ــ مع ذلك ــ استمر متمسكا بالسلطة حتى القضاء المبرم على الدولة.

ليس من دولة واحدة قابلة للحياة، فكيف بصنع المستقبل الأفضل، على امتداد هذه الأرض العربية الشاسعة (ملايين الكيلومترات المربعة..).

وليس من بارقة أمل بتغيير يلبى احتياجات هذه الشعوب التى كانت تفترض أنها خاضت معارك ناجحة من أجل بناء «دولها»، على الرغم من وعيها أن معظم هذه «الدول» قد استولدت قيصريا، وخلافا لطموحاتها وحقائق التاريخ والجغرافيا.

بل إن هذه الشعوب تجد نفسها مضطرة لحماية كيانات سياسية مغايرة لما كانت تطمح إليه، فى تطلعها إلى أشكال من الوحدة أو الاتحاد توفر لها المنعة..

كذلك فإن هذه الشعوب قد تقبلت وتتقبل، بشعور من المهانة، الإشراف الدولى على مختلف شئونها السياسية، أساسا، والاقتصادية عموما، والعسكرية والأمنية بشكل خاص.. وعلى سبيل المثال لا الحصر: فقد وقفت طوابير المواطنين فى هذا القطر العربى أو ذاك، أمام كاميرات الصحافة العالمية وقدر رفعوا أصابعهم التى غمسوها بالحبر، تدليلا على أنهم قد أنهوا بنجاح دراستهم الابتدائية فى الديمقراطية، وأنهم «تخرجوا» بتقدير خاص من اللجنة الفاحصة متعددة الجنسيات، وإن كانت القيادة للأمريكى دائما، فى دروس الانتخابات النيابية ذات اللوائح الطويلة للكيانات السياسية المتوالدة من ذاتها لحفظ التوازن بين أصحاب النفوذ الذين يتقاسمون أوطانهم (العراق مثالا).

فى لبنان، مثلا، جاءتنا أسراب من الطيور المهاجرة المسماة» هيئات المجتمع المدنى» التى تجد من يوفر لها مددا محترما من الدولارات، ورحلات حول العالم، وأندية تستضيفها لمحاضرات بالأجر... لكى «تشرف» على الانتخابات النيابية التى تصارع فيها زعماء الطوائف، فتقاسموا المقاعد ــ ديمقراطيا! ــ وبما يلغى أى معنى للانتخابات.. لكن هيئات المجتمع المدنى قدمت مشاهداتها فى مختلف أقلام الاقتراع لتشهد بأن الزعامات الطائفية قد اقتسمت المقاعد «ديمقراطيا»، ولا يهم أن تكون هذه الديمقراطية قد عجلت فى إلغاء «الدولة» بما هى المؤسسة الناظمة لشئون المجتمع..

ملاحظة: عرف لبنان الصغير الانتخابات قبل قرن ونصف القرن تقريبا. وهو قد تعود «التزوير» فيها، مباشرا أو غير مباشر، حتى لم يعد يدقق: من المزور؟.

أما فى العراق الذى ذهب شعبه إلى صناديق الاقتراع، لأول مرة، فى الثلاثينيات من القرن الماضى، فقد تولت هيئات عديدة، بعضها متحدر من صلب الأمم المتحدة، وبعضها آت باسم الجامعة العربية لكى يبصم على النتائج المقررة، وبعضها الثالث أوفده الاتحاد الأوروبى، فضلا عن موفدى منظمات حقوق الإنسان ومكافحة العنف والحمل بلا ألم ولجان النضال من اجل إطلاق المساجين، وهيئات الدفاع عن حق الرأى الخ.. كل هذه الهيئات شاركت فى تعليم العراقيين كيف يغمسون أصابعهم بالحبر الذى لا يزول بالغسل إلا بعد ثلاثة أيام، وكيف يعثرون على أسماء مرشحيهم فى «الكيانات السياسية» التى ضم كل «كيان» منها بضع مئات من الأعيان والوجهاء وزعماء العشائر والصعاليك ممن رفعتهم طوائفهم إلى الصدارة.

أما فى السودان حيث تكاد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تشابه «حربا كونية»، فإن «المراقبين» المشرفين على هذه العملية الديمقراطية قد جاءوا من أربع رياح الأرض ليشهدوا تفجير السودان من داخله، وتقسيمه إلى دويلات عدة بالتراضى، وعبر الأصوات، وعلى طريقة الجراحة من دون ألم!

فهناك الأميركيون والأوروبيون والأفارقة والعرب، منفردون ومجتمعون عبر بعثة الجامعة العربية، وهناك الصينيون ومختلف هيئات المجتمع المدنى.. وقد اختفى المدعى العام للمحكمة الدولية الذى طالما كافح ليقتاد الرئيس السودانى مخفورا إلى.. المقصلة، ليخلى الطريق أمام المسيرة المظفرة للديمقراطية التى ستؤمن فوزا مريحا لبعض المرشحين وتقسيما بلا ألم لهذا القطر العربى الذى كان مؤهلا أن يكون القلعة العربية المؤهلة لحماية حقوق الأشقاء الأفارقة بالاستقلال والتقدم والمنعة، بدعم من أشقائهم العرب.

هناك دول عربية أراحت أنظمتها نفسها وشعوبها من عبء الانتخابات وإشكالات الديمقراطية ولادة الخلافات والخصومات والحروب الأهلية!
فحيث الحكم لقائد الحزب الحاكم، تتحول الانتخابات إلى استفتاءات لا مجال فيها للاجتهاد، إذ الجواب محصور بواحدة من كلمتين «موافق» أو «غير موافق».. وفى حين تفتح الكلمة الأولى أبواب النعيم أمام هذا المواطن المؤمن بالديمقراطية والذى سعى إلى قلم الاقتراع مع ساعات الصباح الأولى، فإن الكلمة الثانية قد تفتح أبوابا لأمكنة وأوضاع غير مريحة.

هل هى مصادفة أن أربعا أو خمس «جمهوريات» عربية تمارس فيها الديمقراطية بالاستفتاء، أى الجواب بنعم أو لا، مع التذكير الدائم للمواطن بتلك الحكمة البليغة بنصحها: «ما قال لا قط إلا فى تشهده»!

من قبل، أدت «العملية الديمقراطية» فى فلسطين تحت الاحتلال إلى كارثة وطنية تمثلت بانفصال غزة تحت «حكومتها» عن السلطة فى رام الله.. أو هكذا أراد المروجون للاحتلال تصوير الأمر، فبرأوا الاحتلال الإسرائيلى من جريمة الفصل القسرى بين أبناء العشب الواحد، وبرأوا الدول العربية التى «سحبت» اعترافها بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا فى غزة (وسائر المناطق المحتلة) وتركوا للعدو الإسرائيلى أن يؤدب العصاة الخارجين على الديمقراطية والسلطة بكل ما تحظى به من تأييد عربى ودولى، وهكذا شن عليهم حربا بالسلاح والتجويع والحصار المشدد الذى شهد بدعة جديدة تتمثل فى «السور الفولاذى» الذى يقفل باب «البحر المصرى» فى وجه أبناء القطاع الذين كانوا وما زالوا يعتبرون أنفسهم «مصريين» بقدر ما هم فلسطينيون.

أما فى سائر أنحاء فلسطين فإن الاحتلال الإسرائيلى يمارس «ديمقراطيته» بالقوة المسلحة، وبالاستطيان، ومصادرة أملاك الفلسطينيين لا سيما فى القدس الشريف، ويحاصر المسجد الأقصى بمعبدين يهوديين يزعم أنهما كان قائمين هناك قبل ثلاثة آلاف سنة.. فى حين يعلن بنيامين نتنياهو إن البناء فى القدس هو تماما كالبناء فى تل أبيب، أى انه ليس استيطانا، بل إعادة تشييد للعاصمة الأبدية للكيان الإسرائيلى.

ومما يستوقف فى «العملية الديمقراطية» فى كيان الاحتلال الإسرائيلى أن المستوطنين الذين يتوافدون على مدار الساعة، سرعان ما تستوعبهم العملية الديمقراطية وأنهم أسبغوا عليها المزيد من التطرف العنصرى.. مع ذلك تستمر إسرائيل، فى نظر العالم «واحة للديمقراطية فى الشرق الأوسط»، تحاصرها مجموعة من الأنظمة الفاشية إلى حد العنصرية» وتشن عليها «حرب كراهية مفتوحة».. أى إن المستقدم من روسيا أو بعض دول أوروبا الشرقية، والذى يمنح بعض الأرض الفلسطينية التى يقف أصحابها عاجزين عن حمايتها، يصير نموذجا للديمقراطية وحقوق الإنسان، فى حين يصبح احتجاج الفلسطينيين المستضعفين موقفا عنصريا ولا ساميا.

******

على أن أهل النظام العربى هم الذين يوفرون التزكية للديمقراطية الإسرائيلية من خلال المقارنة بين سلوكهم إزاء شعوبهم، وهو قمعى بامتياز، يعتبر الانتخابات بدعة وكل بدعة ضلالة، فيستبدلها بالاستفتاء المقررة نتائجه سلفا، بحيث تستطيع إسرائيل، ويستطيع الغرب جميعا، الأمريكى والأوروبى، أن يشهد لها بأنها «الديمقراطية» الوحيدة فى المنطقة.

وكيف يمكن أن يلام شعب العراق، مثلا، على حماسته للانتخابات التى يعرف أنها تجرى تحت إشراف الاحتلال الأمريكى وبأمر منه، وهو لم يعرف هذه النعمة طيلة عهد «الطغيان الوطنى»، حيث كان الاستفتاء يلخص الممارسة «الديمقراطية»، وبين أشهر الطرائف تلك التى تقول أن صدام حسين قد نجح بأكثرية 103 فى المائة، لأن بعض الصناديق احتسبت الأصوات فيها مرتين.

وكيف يمكن أن يلام شعب السودان، مثلا، على إقباله غدا على صناديق الاقتراع، وهو قد حرم من هذا الحق لعشرين سنة طويلة، علما بأن هذه الحقبة قد شهدت سلسلة من الحروب الأهلية والتمزقات والصراعات العرقية والإثنية والدينية التى كادت تذهب بوحدة هذا البلد العربى الكبير، فضلا عن إمكاناته الهائلة المتروكة للريح..

هذا مع العلم أن المخاطر التى تتهدد وحدة السودان سوف تنعكس أزمات متوالية ستصيب مصر، أساسا، والعديد من الأقطار الأفريقية المجاورة للسودان.. وبين أخطر ما يمكن أن ينتج عن تمزق السودان دولا أو دويلات على أساس عرقى أو طائفى، أن تتفجر مجددا مسألة مياه النيل، وطريقة تقسيمها بين الدول المشاطئة لهذا النهر العظيم الذى يشكل شريان الحياة لمصر، أساسا، وللعديد من الدول الأفريقية.

*****

إن ضمور التجربة الديمقراطية، وبالأمر، يجعل من الانتخابات منحة يقدمها الاحتلال أو النفوذ الأجنبى للشعب المعنى.

إن الانتخابات النيابية فى العراق توفر تزكية للاحتلال الأمريكى، أكثر مما تشهد لشعب العراق بعظيم تعلقه بالديمقراطية.

وفى كل انتخابات شهدها لبنان، رئاسية أو نيابية أو حتى بلدية، فإن التزكية تذهب إلى «المجتمع الدولى» الذى يجعلنا «ديمقراطيين بالأمر»، لا بالرغبة ولا بالطموح ولا بالحق الطبيعى للمواطن فى أن يكون سيد مصيره.

إن أهل النظام العربى لا يكتفون بتسلطهم على شعوبهم ومنعهم من ممارسة أبسط حقوقهم. إنهم يرمون رعاياهم بدائهم وينسلون، ويقولون: ماذا نفعل لهم؟ لقد أعطيناهم الفرصة ولكنهم أثبتوا أنهم لا يستحقون هذه النعمة!

وهكذا فإن النظام العربى يقدم تزكيات دائمة ومؤثرة للهيمنة الأمريكية وللاحتلال الإسرائيلى، فيظهر دائما بصورة القمعى إلا إذا ردعته الإدارة الأمريكية وأجبرته على ترك الشعب يقول كلمته..

.. والشعب أرقى بكثير من أهل النظام العربى، ولكن كيف السبيل لأن يقول كلمته؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved