عن الفيس بوك

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأحد 6 ديسمبر 2015 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

منذ أن غادرت الفيس بوك أسوار جامعة هارفارد، والكتابات والتحليلات، الأميركية والأوروبية، تتناولها بالنقد والمراجعة. فهناك من يأخذ عليها كونها أداة انتهاك لخصوصية الأفراد، ومن يباركها لأنها تمنح الفرد تعبيرا عن فرديته لم يكن متاحا من قبل. وقد ظهر من يقول إن الفيس بوك تضيف إلى أشكال التوصيل المعرفى والإبداعى شكلا جديدا، فيما وجدت، فى المقابل، شركات إعلانية ترى ضمنا غير ذلك، فتعتمد لإعلانها عنوانا يقول: «اقرأ أقل واعرف أكثر». ولئن تحدث بعض ناشطى الثورات عن الفيس بوك بما يذكر بكلام الثوريين الأوائل عن الحزب والتنظيم، نشأ تعبير «جهاديى الفيس بوك» الذين سخر منهم شيخ سلفى مقيم فى الولايات المتحدة اسمه ياسين خالد، فرأى أنهم يحجون إلى الفيس بوك وهم لم يحجوا بعد إلى مكة. وإذا بدا ممكنا قول فيلسوف كبير، قبل قرنين، «إن مطالعة الصحيفة اليومية غدت صلاة الصباح للإنسان العصرى»، فمع الفيس بوك يغدو تعبير «مطالعة» تعبيرا مستغربا، إن لم يكن مستهجنا، ومثله يبدو تبويب أوقات النهار وحصرها بوظائف معينة.
وفى غابة كهذه من اختلاط المعانى والدلالات، يضاف أمر آخر يسرى علينا كما يسرى على غيرنا: كيف يكتب فى الفيس بوك؟ كيف تميز الكتابة الفيسبوكية عن كلامنا الشفوى المعهود وكيف تميز، فى المقابل، عن كتابة الكتاب أو الكتابة للصحيفة؟ وتاليا، من هو الجمهور المتلقى الذى يغاير جمهور الجريدة أو الكتاب غير المشروط بوجوه وملامح وأسماء؟ وأين يستقل، مثلا لا حصرا، التلييك والتشيير بذاتهما عن العلاقات الشخصية والقناعات السياسية بما يرفعهما قليلا أو كثيرا فى سلم الموضوعية؟
***
يخيل إلى أن أحمد بيضون الذى لامس بعض هذه الأسئلة وسواها فى دفتره الأول، ترك هذه الآلة الجديدة تفكر وظيفتها، مختارا أن يجيب بطريقة خاصة جدا. وطريقته هذه مفادها منح الأولوية للكتابة والكتابية بعد تركيزهما على ما سماه «فن الخاطرة». فأحمد كمثل عاشق عشيقته الكتابة، والحبيب لا يهمه المكان الذى يلتقى فيه الحبيبة، ولا تعريف ذاك المكان وتفاصيله، بقدر ما يهمه أن يلتقيها فيه، فكأنه يطبق قولة دينغ هسياو بنغ الشهيرة «ليس المهم لون القطة، بل المهم أن تصطاد الفئران». ففى هذه الغرفة تمارس كتابة البحث، وفى تلك كتابة المقالة، أما فى غرفة الفيس بوك تحديدا، فتكتب الخاطرة التى قد يعن لها مرات أن تتاخم المقالة أو تجاور البحث، كما يمكنها مرات أخرى أن تسخر وأن تضحك وتضحك.
فالمهم هو الكتابة التى يتولى أحمد حراسة مرماها، وهو لهذا لا يكتب فى الفيس بوك إلا ما يكتب، علما أن السائد فى استخدامه هو كتابة ما لا يكتب. وفى المعنى هذا نراه يطوع الفيس بوك للكتابة، مانحا إياها ميدانا جديدا، بدل تطويعه الكتابة للفيس بوك. ولا نستطيع مطالبة العاشق بأن يعشق اثنتين بالقدر نفسه، إذ إن ولاء كهذا للكتابة لا بد أن يرافقه شىء من الخيانة، أو فى الحد الأدنى التوظيف، لما ليس كتابة محضة.
برهاننا الذى لا يدحض على ذلك أن أحمد استطاع أن ينتج كتابين، أو دفترين، مما أسماه فسبكة. فالشىء بمجرد أن يكتب، فى الفيس بوك أو فى سواه، يغدو صالحا لأن ينشر بأحرف محركة وشدات مصانة. وهذا تعال وتفارق يعزيان إلى عمل الكتابة، يعزز طبيعته هذه شخص أحمد الذى لا يعرف الإسفاف. وبهذا المزيج الذى يضمه والكتابة تتبدى فيسبوكه خالية من الإسفاف خلوها من الصغائر. لكنها تتبدى أيضا متصلبة فى رفض المجاملة بالتلييك، على غرار لايك بلايك، إذ هى لا تندرج فى قيم المزيج بمكونيه، أحمد والكتابة، كما تتبدى متصلبة فى الامتناع عن كتابة «ههههه» تنبيها إلى أنه يمزح، معولا فحسب على قوة الكتابة المازحة.
وقبل كل حساب وبعده، فإن الكم والنوع اللذين كتبهما عن الثقافة واللغة يشجعان على اتهامه بالأصولية، فى ما خص الكتابية وما تتوسله من لغة، ويشغلان بالنا على أحمد حين يضطر إلى «تدنيس» الكتابة بالرد كتابيا على فاتورة كهرباء مبالغة أو فاتورة بائع خضار طماع.
***
أما فى ما عدا الكتابة، أو ما كان دونها، فهو مثل صاحبه دينغ هسياو بنغ، قليل الدوجمائية، كثير البراجماتية، لا يكتفى بقبول التعدد فى كلام الغرف وبتطبيق مبدأ «لكل مقام مقال»، بل يتيمن بالمحارب أحيانا فيطلب استراحة عابرة، هى، فى الغالب، نشر صورة من أرشيفه الشخصى.
وتحديدٌ كهذا لعمل الفيس بوك له، فى ما أظن، أسبابه فى تكوين أحمد بيضون الشخصى. فهو فى مقدمة كتابه المرجعى عن رياض الصلح، ذكر ما معناه أنه يتعلم من المناهج جميعا من دون أن يلزم نفسه بواحد منها. كذلك، وفى مناسبة فيسبوكية حديثة العهد، كتب أنه يكره الرائج والموضة.
وقد تفيدنا هاتان الملاحظتان فى تفسير الاستخدام البيضونى للفيس بوك ولتوظيفه، من ثم، غرفة من غرف كثيرة لخدمة غرض هو أبقى من الموضة وأعرض من الامتثال لمنهج.
فالحر الذى يقارب الفوضوى فى أحمد يجعله عاصيا على الانضباط فى ما ناقشه واختلف حوله حكماء الفيس بوك وكهنتها. وهذه الحرية سخية ككل الحريات، أعطتنا، هذه المرة، كتابا جميلا آخر.
الحياة ــ لندن
حازم صاغية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved