الحرب الإسرائيلية على غزة: العنوان مصر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 6 أغسطس 2014 - 8:22 ص بتوقيت القاهرة

من الصعب الكتابة عن الحرب الإسرائيلية الثالثة أو الرابعة على غزة هاشم بلغة تحليلية باردة أو محايدة.. فالدم الذى أريق ويراق على أرضها هو دمنا، ونصرها نصر للأمة جميعا، مهما تعاظمت خلافاتنا الفكرية والسياسية مع « حماس»، وكائنا من كان رأينا فى سلوك قيادتها السياسية.

لقد خاص الشعب الفلسطينى فى غزة، المحاصرة جوا وبحرا وبرا، مواجهة باسلة تكتب وقائعها بأحرف من نور، وهى تضاف إلى سجل أبطال الدفاع عن الأرض المقدسة بدمائهم، وقد غطتها جميعا وفاضت عنها.

ويفرض واجب احترام الدم المراق دفاعا عن شرف الانتماء إلى هذه الأمة، وعن هوية الأرض الفلسطينية فى مواجهة الحرب الإسرائيلية المفتوحة، أن نشهد لمجاهديها بأنهم قد قاتلوا ــ وهم محاصرون ــ ببسالة نادرة، وصمدوا لنيران العدو الذى يمتلك أخطر آلات القتل الجماعى من طائرات وصواريخ ودبابات ومدفعية ثقيلة، على امتداد أسابيع طويلة من المواجهات المفتوحة، ولم يرفعوا الرايات البيضاء، ولا طافت وفودهم تستجدى وقف إطلاق النار بأى ثمن.

ولقد تعاملنا دائما مع غزة الفلسطينية على أنها بعض مصر.. بل أن أهلها يرون أنفسهم مصريين فى فلسطينيتهم أو فلسطينيين فى مصريتهم. فحتى من قبل الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين فى العام 1948، كان أهل غزة من بين الفلسطينيين الأكثر اتصالا بالمصريين وقد ربطتهم معهم صلات قربى ومصاهرات، فضلا أنهم كانوا يتطلعون إلى القاهرة على أنها عاصمة الأمة ومصدر حمايتهم.

وفى حقيقة الأمر فإن إسرائيل قد شنت حرب إبادة على الفلسطينيين فى غزة. فهى لا تريد احتلالها بالكامل والبقاء فيها، لأن ثمن ذلك باهظ جدا ولا تستطيع أو هى لا تريد أن تدفعه.. ولا هى تستطيع تهجير أهلها منها، وهم المهجرون بأكثريتهم الساحقة من أنحاء فلسطين مرة ومرتين وثلاثا، أى بعدد الحروب الإسرائيلية على العرب فى فلسطين وباسمها منذ «النكبة» وحتى حرب 1973 حين أقفلت عليها قنوات التواصل والاتصال مع أهلها فى مصر.

أليس مثيرا للتقدير والإعجاب أن تعجز جيوش إسرائيل التى لا تقهر، والتى تسخر ثلاثين طائرة استطلاع وعشرة مناطيد فوق هذه «الجزيرة» تحصى على أهلها أنفاسهم، وتراقب «حدودها» ــ وهى محاصرة ــ برا وبحرا وجوا، عن «التخلص من هذا الكابوس الذى اسمه غزة؟!

•••

لقد فرض العدو الإسرائيلى على أهل غزة أن يعيشوا فى جحيم نيرانه الحارقة لمدة شهر تقريبا: كانت الطائرات تغير ممهدة الطريق أمام الدبابات التى تواكبها الجرافات والمدفعية تقصف أنحاءها كافة، فى حين تتقدم «كتائب النخبة» فى «الجيش الذى لا يقهر» لاكتشاف الأنفاق (المصفحة) تمهيدا لنسفها والتخلص من عقدتها التى أربكت جنرالات إسرائيل وبالتحديد كتيبة جولانى التى تشكل نخبته المقتحمة.

لم تكن إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو مستعدة للتفاوض، حتى على هدنة.. ولقد أرادت أن تكون حربها هذه الحرب الأخيرة لاقتلاع المقاتلين وتدمير الأنفاق التى شكلت سلاحا جديدا وفريدا فى بابه، باعتبارها قواعد الصواريخ ومراكز التدريب المجهزة بأحدث وسائل الاتصال والمعابر السرية إلى العدو فى الأرض الفلسطينية المحتلة، خارج غزة.

وبالطبع فقد ترتب على نتنياهو أن يخوض هذه الحرب، كما كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية السابقين، باعتبار الانتصار فيها شرط استمراره فى الحكم و«الانتصار» على المنافسين ــ وهم داخل حكومته ذاتها ــ وإبقائهم بعيدين عن موقعه الممتاز بالاندفاع أبعد مما يطلبون أو يقدرون. لكن شرط الاستمرار هو «الانتصار»، وقد عز عليه تحقيقه، برغم غزارة النيران، وبرغم إشراك الطيران (الذى لم يغب ساعة واحدة عن سماء غزة) وسلاح البحرية المدفعية الثقيلة و«قوات النخبة» فى هذه الحرب التى أرادها «الأخيرة».

لم يوفر نتنياهو سلاحا من أسلحة الدمار الشامل، الكيماوية منها، والنووية المخففة والقنابل الفراغية ومجازر إعدام الأهالى لا فرق بين مقاتل وعجوز أو بائع متجول يدور على رزقه.. بل لقد نفذ الطيران الإسرائيلى غارات قاتلة على المساجد عموما، وعلى المدارس، وبما فيها تلك التابعة لوكالة غوث اللاجئين. ولقد شهد العالم كله على فظاعة هذه المجازر وحفظ لذلك الرجل الشريف بيير كرينبول، وهو المفوض العام للوكالة الدولية إجهاشه بالبكاء، وعجزه عن إكمال حديثه عن المجزرة التى أوقعتها غارة للطيران الإسرائيلى فى بعض مدارس الوكالة فأودت بحياة العشرات من الأطفال وبعض مدرسيهم والمبنى الذى يرفع راية الأمم المتحدة.

•••

هذا فى الوقائع الميدانية.. أما فى السياسة فقد كان الوضع أمّر وأدهى: فى ما عدا « المبادرة المصرية» التى صيغت بشكل مرتجل، وقبل التثبت من الوقائع، ومع تغليب للموقف من «حماس» على الموقف ــ الأساس من فلسطين، بشعبها كله، وأهداف نضاله وقضيتها المقدسة التى طالما بذلت مصر دماء جمودها من أجلها... كانت وسائل الإعلام المصرية، فى ما عدا استثناءات قليلة، تشن حملات هجوم قاسية على حماس، وباختصار فقد كان المنطق المصرى من الحرب الإسرائيلية على غزة محكوما بالموقف من الإخوان المسلمين ودورهم التخريبى داخل مصر.

وفى غياب مصر عن دورها الذى لا بديل منه، فقد كان طبيعيا أن تفشل «المبادرة» التى تقصدت القيام بها كل من تركيا وقطر، فجمعت بعض دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية فى باريس.. ولعل هذا ما شجع إسرائيل على المضى فى حربها على شعب فلسطين فى غزة مطمئنة إلى أن «أصدقاءها» سيحمونها من أية عقوبة محتملة ، ولأن مصر غائبة بقرار انتقامى، يمكن تفهم أسبابه فى ظروف مختلفة ولا يمكن قبوله مع تمادى الحرب الإسرائيلية وبلوغها ذروة الوحشية واستهدافها البشر والحجر، المستشفيات وسيارات الإسعاف والمدارس ودور العبادة والأحياء السكنية وطواقم الإسعاف.

ولأن معظم الدول العربية، أو من كانت الأقوى والأكثر استعدادا للتحرك، غائبة أو مغيبة فى ظل أوضاعها الداخلية الصعبة، وبين عناوينها الحرب الأهلية أو ما يماثلها (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا).

ولأن القيادة الأمريكية أضعف من أن تتصدى لنتنياهو وطموحه إلى دور البطل الذى أنقذ إسرائيل من «آخر أعدائها» وقضى على «بدعة الأنفاق» التى غدت الهاجس الدائم لجيش الحرب الإسرائيلى، ولأن تحرك قطر مع تركيا يثير الشبهة أكثر مما يستقطب التأييد الدولى، خصوصا فى ظل التأثير الطاغى للإخوان المسلمين على القرار السياسى فى أنقرة والطموح المنفوخ لقطر من أجل لعب دور أكبر من حجمها وقدرتها على التأثير.

... لهذا كله توجب على شعب فلسطين فى غزة أن يدفع من دمائه ثمن إطلاق آلة القتل الإسرائيلية لتعمل فتكا وتدميرا فى هذا القطاع المقطوع عن أهله داخل فلسطين، كما عن أهله على امتداد الوطن العربى.

وربما لهذا كله استطاع ملك السعودية عبدالله بن عبدالعزيز أن يتبدى وكأنه الأشجع فى المبادرة، بغض النظر عن النصوص والمضامين ومدى التأثير على المستوى الدولى، فضلا عن استكمالها بتحرك عربى فاعل يحمى الشعب الفلسطينى فى غزة من إبادة جماعية عبر محرقة إسرائيلية مفتوحة.

إن رؤساء الحكومات الإسرائيلية عموما هم أبطال الحروب على العرب، بينما قيادات الصف الأول من أهل الحكم فى دنيا العرب هم أبطال الخروج من دائرة الحرب مع العدو الإسرائيلى إلى الصلح معه بشروطه.

•••

الخلاصة: أن إسرائيل لم تكن يوما ولن تكون «حليفا» لأى دولة عربية، أو لأى نظام عربى.. وها أن معاهدات الصلح معها قد أضعفت الدول العربية التى عقدتها بدل أن تقويها او تعزز خططها للتنمية والتقدم بمجتمعاتها.

وللتذكير، كخاتمة، لابد من الإشارة إلى أن مخازن الذخيرة للجيوش الأمريكية قد فتحت للجيش الإسرائيلى، وأن الخزانة الأمريكية قد تكبدت مبلغ مائتين وخمسة وعشرين مليون دولار لتعويض النقص فى تجهيزات «القبة الحديدية» التى تتولى صد الصواريخ الموجهة إلى الكيان الصهيونى.. وهذا ما أعلن أما المخفى فأعظم.

لا سلام مع إسرائيل، ولو بشروطها. والسلام معها يعنى، آليا، اندفاع العرب إلى حروب أهلية بلا نهاية... وهو بعض ما نشهده هذه الأيام، من دون أن نستطيع توجه أصابع الاتهام بالمسئولية عنه إلى غزة التى كتبت وتكتب بمقاومتها صفحات مضيئة فى التاريخ العربى الحديث.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved