الإنفاق العام وحديث التقشف

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 6 يوليه 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

دائما ما يثور حديث التقشف فى الإنفاق العام كلما صدرت الموازنة العامة للدولة، أو طرحت للنقاش. التبعات السلبية للتقشف كثيرة وقد رصدناها فى مقالات سابقة، لكن التوسّع فى الإنفاق العام ليس مطلقا وبغير قيود إذ إنه يعتمد على حجم الإيرادات الضريبية فى الأساس خاصة فى الدول التى لا تملك مصدرا مستقرا للإيراد الريعى كالدول النفطية، والتى بدورها لم تعد تكتفى بهذا المصدر الوحيد لتمويل برامج الإنفاق العام. إذن يرتبط الإنفاق العام بالأعباء الضريبية والتى يجب أن يخضع توزيعها للعديد من الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية.
ومن بين أوائل النظريات التى سعت إلى الربط بين حجم الإنفاق العام وتوزيع أعباء تمويله نظرية الاقتصادى السويدى النيوكلاسيكى «إيريك ليندل» التى أعلن من خلالها عام 1919 أن حجم الإنفاق العام يتحدد بالصراع بين الفئات الاجتماعية حول توزيع أعبائه ومنافعه فيما بينهم، فى علاقة ديناميكية أشبه بآلية عمل الأسعار فى الأسواق، بحيث يزيد الطلب على الإنفاق العام من قبل الفئة الاجتماعية التى يقل نسبة العبء الواقع عليها، والعكس صحيح. لكن الضريبة التى اقترحها «ليندل» لتحقيق التوازن فى سوق السلعة أو الخدمة العامة هى ضريبة نظرية ولا يمكن أن تلعب دورا مناسبا فى توزيع أعباء الإنفاق العام وفقا للمنفعة الحدية لكل مستفيد!.
ولأن مصادر تمويل الإنفاق العام تطورت تاريخيا ومنذ العصور الوسطى من الاقتصار فقط على إيرادات الدومين العام (أى إيرادات مباشرة ناشئة عن أملاك الدولة) إلى الاعتماد بشكل أكبر على إيرادات ضريبية سيادية ناشئة عن توزيع جانب من تلك الممتلكات على الأمراء والأعيان، ومن ثم حرص الدولة على الجباية منهم بغية سد احتياجات الإنفاق العام، فقد كان من الضرورى أن يكون النظام الضريبى عادلا فى توزيع الأعباء، وأن يبقى على النشاط الاقتصادى (المحمود الذى تشجعه الدولة) ولا يأكل من رأس المال أو ينقص من رصيد الأصول القادرة على الإدرار مستقبلا وبصفة شبه مستدامة. هنا لابد من رؤية كلية لفرض الضرائب ونظم الجباية والتحصيل، فالنظر إلى الحصيلة الضريبية على حساب استمرار النشاط الاقتصادى هو بمثابة اقتلاع للأشجار من جذورها بغرض جنى المحصول، أو ذبح الأبقار التى تنتج لبنا لمجرد توفير وجبة واحدة من اللحوم! من هنا كانت أهمية التنظيم الفنى للضريبة من حيث تحديد وعاء الضريبة وسعرها ونطاقها.
***
ولعل من أبرز الوقائع التاريخية ذات الأثر الاقتصادى التى يستدل بها على المواءمة بين الأهداف التنموية للنظام الضريبى وتلك التى لا تعنى أبدا باستدامة النشاط واستقرار الحصيلة الضريبية ما عاد به عبدالله بن أبى السرح من إيرادات جبائية كبيرة من شعب مصر فاقت كثيرا تلك التى كان يجبيها سلفه عمرو بن العاص حينما ولّى على الحرب والخراج فى مصر فى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه. لكن قسوة النظام الضريبى لابن أبى السرح كانت كفيلة بإفقار الممولين وفساد العمران وتراجع الإنتاج الزراعى والنشاط الاقتصادى كله. ولأن زيادة الحصيلة الضريبية لم تكن تدور داخل الاقتصاد المصرى وفق نظام للإنفاق العام يسمح لمموّل الخراج أن يستفيد منه فى صورة سلع وخدمات عامة.
انخفاض الحصيلة الضريبية إذن ومدارها فى المتوسط أقل من نسبة 20% من الناتج المحلى فى الدول النامية (15% فى مصر هذا العام) مقارنة بما يزيد عن 30% فى الدول المتقدمة سببه الأساسى ضعف النظام الضريبى وفساد نظم التحصيل فضلا عن تراجع مستويات المعيشة والدخول وعدم التوسّع فى فرض الضرائب المباشرة التى لا تزيد عن خمس الحصيلة الضريبية بدول العالم الثالث ونحو 50% من الحصيلة الضريبية فى الدول المتقدمة.
ولأن الدولة تمتلك فى مصر الكثير من الأراضى والمشروعات القومية والأوقاف والأصول المتنوعة، فإن المراقب للموازنة العامة للدولة يتوقع أن تكون الإيرادات غير الضريبية فى نمو مستمر. وقد أعلنت وزارة المالية عن ارتفاع حصيلة الإيرادات الضريبية للعام المالى 2020/2021 إلى 322 مليار جم! لكن الحصر الدقيق لمصادر تلك الحصيلة وضعت فى المقدمة إيرادات قناة السويس بقيمة 33.5 مليار وفوائض الهيئات الاقتصادية بنحو 22 مليار فضلا عن سبعة مصادر أخرى لا تقترب فى مجموعها من ثلث الحصيلة المتوقعة! علما بأن بيع الأصول «المستغلة» أو القابلة للاستغلال (مثل برنامج الطروحات العامة لممتلكات الدولة) يجب أن يأخذ فى الاعتبار الخصم فى الإيراد المتوقع مستقبلا لتوقف استغلال تلك الأصول (نموذج ابن أبى السرح). وبصفة عامة فإن توسيع قاعدة الملكية الخاصة إن كان بغرض زيادة النشاط الاقتصادى ورفع كفاءته فإنه لا يجوز رصده كعائد نقدى فى موازنة عام مالى للدولة، وإنما من خلال عدد من النماذج التى تقف على الوفورات الاقتصادية الداخلية والخارجية لهذا النوع من القرارات.
إدارة الدولة لبعض الأنشطة الاقتصادية فى مجالات الطاقة والاستثمار العقارى وخلافه يجب أن تخضع للمعايير الاقتصادية، وأن تكون بالطبع غير هادمة لفرص المنافسة العادلة. لكن الأهم أن تكون المشروعات الجديدة الممولة من الإيرادات العامة أو من القروض قد درست بشكل فعّال لتحقيق الجدوى الاقتصادية والاجتماعية المناسبة لتكلفة الحصول على رأس المال، ولتكلفة الفرصة البديلة التى يمكن أن يذهب إليها هذا التمويل محققا إيرادات أكبر وأكثر استدامة. هذا الأمر تعيه جيدا الحكومة المصرية وتعكف عليه بشكل خاص وزارة التخطيط التى لم تكتفِ بإدارة ملفات الرؤية المستقبلية للبلاد، ولكنها ساهمت بشكل ملفت وفعّال فى تحويل الموازنة العامة للدولة للعام المالى الجديد من موازنة بنود وحسابات إلى موازنة برامج وأهداف.
***
كثيرا ما أثرنا معضلة تسعير الخدمات والسلع العامة، وكان تسعير الكهرباء والغاز وغيرهما زائرا معتادا لمساحة مقالاتى بالشروق الغراء، ورغم أن الجدل بين الاقتصاديين عادة ما يدور حول التسعير بالتكلفة الحدية (تكلفة آخر وحدة منتجة من السلعة أو الخدمة وليكن تكلفة إنتاج آخر كيلووات كهرباء) أو التسعير بالتكلفة المتوسطة والتى يدخل فيها جانب من تكلفة عناصر الإنتاج التاريخية والثابتة، الأمر الذى عارضه أغلب الاقتصاديين كونه يتعارض مع دولة الرفاهة. غير أن تسعير بعض السلع العامة بأكثر من التكلفة وتحقيق هامش ربح يطلق عليه دعم تبادلى هو أمر لم يدر أبدا فى كتب الاقتصاد التى درسناها فى الجامعة، خاصة أن تكلفة رأس المال كبيرة جدا فى مشروعات الطاقة ناهيك عن تراجع كفاءة الإنتاج والتوزيع ونظم الأجور.. إلى غير ذلك من مشكلات لا يجوز أن يتحملها المستهلك الفرد أو المؤسسة.
إذا كان مبرر أى إجراء تقشفى هو تراجع الإيرادات العامة المتوقعة بنحو 124 مليار جنيه على خلفية أزمة كورونا، فإن الأثر الاقتصادى والاجتماعى لهذا الإجراء التقشفى المتمثل فى فرض ضريبة جديدة أو زيادة كبيرة فى سعر الضريبة أو خفض نفقات عامة.. يجب ألا يؤدى إلى مزيد من التراجع المستقبلى فى الإيرادات العامة، أو يثبّط القرار الاستثمارى أو يزيد من خسائر المشروع الخاص بما يؤدى إلى زيادة مخاطر البطالة وتراجع الدخل القومى وانتشار الركود بدرجاته المتفاوتة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved