ميلاد الضمير فى مصر الفرعونية!

حسين عبدالبصير
حسين عبدالبصير

آخر تحديث: الإثنين 5 نوفمبر 2018 - 12:00 ص بتوقيت القاهرة

مصر القديمة هى التى أبدعت الضمير كأول دستور أخلاقى فى العالم كله. وتشهد على ذلك الكتب الدينية العديدة والأعمال الأدبية الجميلة والفنية البديعة القادمة إلينا من مصر القديمة. ويشهد على ذلك عالم المصريات الأمريكى الأشهر الدكتور جيمس هنرى بريستد، أستاذ المصريات بجامعة شيكاغو الأمريكية ومؤسس المعهد الشرقى بجامعة شيكاغو.
ويقدم الدكتور بريستد فى كتابه المهم «فجر الضمير» تصورًا شاملًا عن الحضارة المصرية القديمة ونشأتها وأبرز سمات هذه الحضارة وهى الأخلاق أو الضمير. وأثبت الدكتور بريستد أن ضمير الإنسانية بدأ فى التشكل فى مصر قبل أى بلد فى العالم كله منذ أكثر من خمسة آلاف عام من الآن. ويقول مترجم هذا الكتاب الفريد عالم المصريات المصرى الأشهر الدكتور سليم حسن فى تقديمه للكتاب: «يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول، بل فى مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنسانى بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية، وقد أخذ الأستاذ بريستد يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية إلى أن انطفأ قبس الحضارة فى مصر حوالى عام 525 قبل الميلاد». وهذا هو تاريخ الاحتلال الفارسى الأول لمصر على يد القائد الفارسى قمبيز. وقد حاول الفرس طمس الهوية المصرية قبل أن تتحول مصر إلى مملكة بطلمية يحكمها الغرباء عن أرض مصر. ويضيف الدكتور سليم حسن يلاحظ بريستد بذكاء أن «الإنسان صار أول صانع للأشياء بين مخلوقات الكون كله قبل حلول عصر الجليد، والأرجح أن ذلك كان من مليون سنة. وقد صار فى الوقت نفسه أول مخترع للأسلحة، وعلى ذلك بقى مليون سنة يحسن هذه الآلات/ الأسلحة، ولكنه من جهة أخرى لم يمض عليه إلا أقل من خمسة آلاف سنة منذ أن بدأ يشعر بقوة الضمير إلى درجة جعلته قوة اجتماعية فعالة». وأكد الدكتور بريستد فى كتابه المؤسس على فكرة مهمة، وهى أن الإنسان ظل يصارع أخاه الإنسان، وكل القوى المادية: وحوش/ رياح/ أعاصير/ فيضانات إلى آخره، طوال مليون سنة طور خلالها أدواته، ومن ضمنها السلاح. وهذا السلاح كما يقول المؤلف بدأ بـ«البلطة»، وانتهى بالقنابل الذرية والقذائف المدمرة، فإذا كان الإنسان من مليون سنة يستطيع تحطيم رأس إنسان آخر بهذه «البلطة»، فإنه الآن يقدر أن يبيد الآلاف من البشر بقنبلة واحدة فى ثوان معدودات! أما الأخلاق ورقيها، فقد بدأت تتشكل منذ 5000 سنة فقط على ضفاف نهر النيل فى مصر أرض الحضارة والقيم والتاريخ.
***
ومن الأعمال الأدبية المهمة التى جاءت لنا من مصر القديمة وتؤكد عظمة القيم الأخلاقية والضمير الإنسانى فى مصر القديمة، بردية إيبو ور، وهى واحدة من أروع الأعمال الأدبية فى مصر القديمة، المعروفة بـ«معاتبة إيبو ور» أو «حوار بين إيبو ور ورب الكل»، وهى محفوظة فى المتحف الوطنى الهولندى للآثار فى ليدن، بعد أن تم شراؤها من «جيوفانى أنستانى»، القنصل السويدى فى مصر فى عام 1828. ويرجع تاريخ البردية إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ويصف هذا العمل الأدبى الفريد التحول المجتمعى فى مصر القديمة بعد نهاية عصر الدولة أو عصر بناة الأهرام. وتوضح معاناة مصر القديمة من الكوارث الطبيعية وحالة من الفوضى، والتى جعلت الأمور تنقلب رأسًا على عقب. وتصف البردية الوضع بأن الفقراء أصبحوا أغنياء وأصبح الأغنياء فقراء. وصارت أشباح الحرب والمجاعة والموت ترفرف فى كل مكان. وترجع البردية سبب ذلك إلى ثورة مجتمعية حدثت وترك البعض حياة الخدمة ما أثر سلبًا على الحياة فى مصر القديمة فى ذلك العصر المضطرب. وذكرت البردية أحداث الثورة الاجتماعية الأولى التى حدثت بعد نهاية عصر الدولة القديمة حين انهارت السلطة المركزية وأصبح حكام الأقاليم المصرية هم سادة البلاد وانهارت السلطة المركزية واختفى وجود الملك كقوة حاكمة واحدة موحدة لشمل الأمة. وذكرت البردية أن الناس امتنعت عن دفع الضرائب وحرث الحقول وهاجموا مخازن الحكومة وكانوا يلقون بأطفالهم فى الشارع لعدم قدرتهم على إعالتهم.
***
ومن بين الأعمال الأدبية المميزة، التى توضح عظمة مصر ودعوتها الخالدة للتمسك بالعدل والحق وإنقاذ المظلوم مهما كانت مكانة الظالم، ما نعرفه بـ «شكاوى القروى الفصيح». وتعد «شكاوى الفلاح الفصيح» من عيون الأدب المصرى القديم. وهى قصة مصرية قديمة عن قدوم فلاح مصرى قديم يدعى «خو إن ــ إنبو» من منطقة وادى النطرون إلى منطقة إهناسيا فى بنى سويف مصر الوسطى. وعاش فى عهد الأسرة التاسعة أو العاشرة أو ما يعرف بالعصر الإهناسى. وقد تعرض «خو إن ــ إنبو» لاعتداء من قبل نبيل يدعى «رنسى بن مرو». وتبدأ القصة بتعثر الفلاح «خو إن ــ إنبو» وحماره فى أراضى النبيل «رنسى بن مرو»، فاتهمه المشرف على الأرض «نمتى نخت» بإتلاف الزرع الخاص بهذه الأرض، وبأن حماره أكل من زرع النبيل، فأخذ الحمار واعتدى على «خو إن ــ إنبو». وذهب «خو إن ــ إنبو» إلى النبيل «رنسى بن مرو» بالقرب من ضفة النهر فى المدينة، وأثنى عليه، وبث له شكواه، فطالبه النبيل بأن يحضر شهودًا على صحة كلامه. إلا أن «خو إن ــ إنبو» لم يتمكن من ذلك، غير أن النبيل أعجب بفصاحة الفلاح، وعرض الأمر على الحاكم وأخبره عن بلاغة الفلاح، فأعجب الحاكم بالخطاب، وأمره بأن يقدم عريضة مكتوبة بشكواه. وظل «خو إن ــ إنبو» يكتب تسع شكاوى لتسعة أيام متواصلة يتوسل لتطبيق العدالة. وبعد أن استشعر التجاهل من قبل النبيل، أهان «خو إن ــ إنبو» النبيل، فعوقب بالضرب. فرحل الفلاح المحبط، غير أن النبيل أرسل إليه من يأمره بالعودة، وبدل من أن يعاقبه على وقاحته، أنصفه وأمر برد الحمار للفلاح وإعجابًا منه بفصاحته، عينه مشرفًا على أراضيه بدلا من المشرف الظالم، «نمتى نخت» وأعطاه ممتلكات المشرف الظالم «نمتى نخت».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved