نصف انسحاب.. نصف أزمة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 5 أكتوبر 2015 - 6:05 ص بتوقيت القاهرة

لم يخف ضيقه البالغ من الوضع الذى هو فيه.
رهاناته السياسية على تسوية ما مع إسرائيل وصلت إلى طريق مسدود لا أفق بعده.
وأزماته مع «حماس» انفجرت على خلفية رؤية كل طرف لأسباب ونتائج العدوان الإسرائيلى على غزة عام (٢٠١٤).
تحدث رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس» طويلا أمام مجموعة ضيقة من الصحفيين والإعلاميين التقوه فى قصر «الأندلس» فى ضاحية مصر الجديدة عن معاناته كرئيس لسلطة بلا سلطة، وممثل لقضية يتناحر أصحابها.
كان عائدا لتوه من لقاء مع الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى»، ولم تكن لديه إجابة عن احتمالات المستقبل والسياسة التى سوف يتبعها فى ظل الأوضاع التى يشتكى منها.
سأله الأستاذ «مكرم محمد أحمد»، وفى لهجته نقد صريح لارتفاع منسوب الضجر بغير رؤية للمستقبل: «قل لنا ما الذى سوف تفعله وأنت المسئول الأول فى السلطة الفلسطينية؟ وأى مواقف عملية سوف تتخذها أمام هذه الأوضاع؟».
استدار نحوى «أبو مازن»: «قل لى ماذا أفعل؟».
أجبته: «حل السلطة الفلسطينية».
لاحت على وجهه ابتسامة، وطلب من أحد مرافقيه أن يشعل له سيجارة، فهو لا يضعها أمامه حتى لا يفرط فى التدخين، حسب أوامر الأطباء.
قال: «قد يفاجئك أننى أفكر جديا فى هذا الخيار».
غير أنه أردف: «ليس الآن».
فى اجتماع تال مماثل بالمكان نفسه صاغ «أبو مازن» أفكاره على نحو أكثر حسما: «ليس أمامنا خيار آخر».
لم تكن هناك مفاجأة أن يعلن من فوق منصة الأمم المتحدة عدم الالتزام بـ«اتفاقات أوسلو» لعدم التزام إسرائيل بها.
الفكرة شغلته طويلا، وأفكاره تحدث بها علنا فى أكثر من مكان، غير أنه عند التنفيذ تصرف على نحو أكثر حذرا.
لم يلق القفاز فى وجه إسرائيل بقدر ما لوح بأنه قد يفعل ذلك.
لم يعلن انسحابا كاملا من «أوسلو» ولا لوح بحل للسلطة الفلسطينية.
التحلل من «أوسلو» يعنى بالضبط حل السلطة وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعى ووحيد للشعب الفلسطينى الرازح تحت الاحتلال.
ما قاله بالضبط نصف انسحاب، عدم التزام فلسطينى مقابل عدم التزام إسرائيلى.
هذه الخطوة أقل من أن تكون راديكالية، لكنها ليست هينة.
وفق حسابات «أبو مازن» أمام إسرائيل أحد خيارين.
الأول: الإقرار بأن «السلطة الفلسطينية ناقلة لشعبها من الاحتلال إلى الاستقلال».
وهذا خيار شبه مستبعد، فما الذى يدعو حكومة «بنيامين نتنياهو» اليمينية المتشددة إلى أى تنازلات فى ظل الأحوال العربية والفلسطينية الحالية؟
لا العالم العربى بوسعه أن يضغط، ولا الفلسطينيون مؤهلون للوحدة الوطنية بأى وقت منظور.
الاقتحام المنهجى للمسجد الأقصى ــ بدعم من قوات الأمن الإسرائيلية ــ تعبير مباشر عن الاستهتار البالغ بأى ردود فعل محتملة.
هذه مأساة حقيقية لا يمكن إنكارها.
والثانى: «أن تتحمل إسرائيل مسئولياتها كدولة احتلال».
وهذا خيار أكثر واقعية.
إعادة توصيف القضية الفلسطينية بلا رتوش «أوسلو» تعنى الاعتراف بالحقيقة دون خداع للنفس.
الفلسطينيون تحت الاحتلال ويتعرضون لتنكيل يومى تحت ظل علم مرفوع فوق البنايات.
رئيس السلطة لا يملك أن يغادر «رام الله» إلا بإذن مسبق من السلطات الإسرائيلية وتأشيرة على جواز سفره، كما يشتكى علنا ويراه مذلا.
التوسع الاستيطانى يأخذ مداه والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين تتعطل التزاماته كأنها لم تحدث.
وفق «أوسلو» التسوية كان ينبغى أن تستكمل بعد خمس سنوات من توقيعها فى عام (١٩٩٣).
غير أن ذلك لم يحدث ومرت سبع عشرة سنة إضافية.
بتعبير «أبو مازن» من فوق منصة الأمم المتحدة «الوضع القائم لا يمكن استمراره».
وهذا صحيح، غير أن الأصح أن اللعبة انتهت وأنصاف الانسحابات ليست بديلا.
بأى كلام واقعى، وبغض النظر عن أى مواقف من «أوسلو»، فإنها ماتت إكلينيكيا ويتبقى دفنها.
لم تكن هذه النتيجة مفاجأة، فالنهايات تبدت فى المقدمات.
سألت المفكر الفلسطينى الراحل الدكتور «إدوارد سعيد» قبل عشرين سنة:
«إذا لم تكن سلطة الحكم الذاتى مرشحة للتحول إلى دولة كما تقول وتتوقع.. فما مصير ومستقبل هذه السلطة؟».
قال بما نصه: «إذا أمعنت فى قراءة أوسلو فسوف تجده يقول إن من حق القوات الإسرائيلية أن تدخل أراضى الحكم الذاتى لو اعتقدت أو استشعرت أن مصالحها مهددة، وهو نص يكفل لإسرائيل من الناحية الواقعية فرض سلطة الاحتلال المباشرة فى أى وقت تريد، وممارسة حق القتل عندما تقرر ذلك».
«أعتقد أن ما يحدث فعليا الآن من حكم ذاتى هو نوع من التعاون بين القوات الإسرائيلية وقوات الشرطة الفلسطينية يكرس سلطة الاحتلال ولا يؤدى إلى دولة.. وبوضوح أكثر أقول سلطة الحكم الذاتى أداة للاحتلال، وهذا هو مصيرها».
كان قاطعا فى أحكامه، فالذين يتحدثون باسم «أوسلو» أمام وسائل الإعلام الأمريكية يقولون إنهم «فى مسيرة منتصرة نحو الدولة المستقلة»، بينما كل الدلائل تشير إلى العكس تماما.
فى هذا الحوار المثير اتهم «سعيد» «أبو مازن» بمغالطات فادحة تزيف الحقائق كقوله: «إن هذه أول مرة فى تاريخ الفلسطينيين يحكمون أنفسهم».
كانا على طرفى نقيض فى الموقف من «أوسلو».
أولهما، الصوت الفلسطينى الأبرز فى نقدها.
وثانيهما، عرابها الأكثر رهانا عليها.
بعد عشرين سنة يستعير العراب بعض عبارات المفكر.
الحقائق وحدها تملى كلمتها فى النهاية.
أمام مفترق طرق آخر إلى أين يمضى نصف الانسحاب من «أوسلو»؟
هل نحن أمام احتمال لترتيب البيت الفلسطينى من جديد وتبنى سياسات تليق بأنبل القضايا الإنسانية فى القرن العشرين؟
الإجابة ليست سهلة لكنها ضرورية.
بالنسبة للفلسطينيين، فهذه مسألة حياة أو موت، أن تكون هناك فرصة لإنقاذ قضيتهم من قبضة اليأس أو لا تكون ويضيع ما تبقى من حقوق إلى الأبد.
بالنسبة للإسرائيليين فهذا تحدٍ جوهرى لمجمل استراتيجيتها.
فالإعلان الفلسطينى بعدم الالتزام باتفاقات «أوسلو» يعنى وقف التنسيق الأمنى وإلغاء الدور الوظيفى للسلطة نفسها.
الإسرائيليون الذين أدمنوا «الخطوات الأحادية» وصفوا الخطوة الفلسطينية الأخيرة بأنها «أحادية» تستلزم بالمقابل التضييق الأمنى ووقف تحويل الأموال واتخاذ إجراءات تمنع تحرك مسئولى السلطة بحرية.
التهديد بذاته لا يعنى كثيرا، فهناك مشاكل دائمة فى التحويلات والانتقالات وإهانات بلا حد لمسئولى السلطة الفلسطينية.
السيناريو الأرجح لحين إشعار آخر أن تبقى المعادلة على ما هى عليه، ضغوط متبادلة بلا تعديل جوهرى على قواعد اللعبة.
بمعنى آخر شىء من التعايش بين سلطة مغلوبة على أمرها وقوات احتلال تكشر عن أنيابها.
والسيناريو الآخر ــ الذى لا يمكن استبعاده ــ أن تفضى الضغوطات إلى حل السلطة فتأخذ الأزمة مداها على المستويين الإقليمى والدولى وترد الاعتبار للقضية الفلسطينية.
أزمة كبرى لا نصف أزمة.. وانسحاب مدو لا نصف انسحاب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved