لندن 6 أكتوبر السادسة مساء..

حسن المستكاوي
حسن المستكاوي

آخر تحديث: الأربعاء 4 أكتوبر 2023 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

** بدأ وعى جيلنا بالوطن مبكرا، فى مراحل الطفولة، بالقراءة والتعليم، وبتعريفنا الفطرى الغريزى لمعنى الوطنية، فنفرح لمصر ونحزن من أجل مصر، وكنا نشدو مع عبدالحليم بالأغانى الوطنية. وعشنا حلما كسرته هزيمة يونيو 1967. لكنها لم تكسر وطنيتنا. وأتذكر أنى بكيت عندما سمعت فى الراديو أن القوات المسلحة تتمركز فى خط الدفاع الثانى لصد العدوان الإسرائيلى، مع نداءات مستمرة لقوات الصاعقة التى تعمل خلف خطوط العدو بالعودة إلى قواعدها. وفى يومى 9 و10 يونيو عدوت نحو مبنى الاتحاد الاشتراكى فى المعادى، وهو التنظيم السياسى المسيطر فى ذاك الوقت، عدوت مع المئات من سكان الضاحية، رفضا لقرار الرئيس عبدالناصر بالتنحى. كان عمرى قرابة 15 سنة، ولم يكن تحركنا وقتها مرتبا، كما قيل وتردد فيما بعد من جانب بعض الذين رأوا أن عبدالناصر هو المسئول الاول عن الهزيمة ويجب أن يرحل، ففى الواقع كانت تظاهرات الملايين تعنى رفض الشعب المصرى الهزيمة، والثقة فى الرئيس بأنه قادر على قيادة البلد من أجل الخروج منها، ولولا هذا الموقف من هذا الجيل العظيم من شعب مصر لما تحقق نصر أكتوبر فيما بعد.

** مشاعر الأمل داعبت جيلنا بمعركة رأس العش فى الأول من يوليو 1967 بعد أيام قليلة من النكسة، وقد فهمنا بعد سنين لماذا أطلق عليها الاستاذ محمد حسنين هيكل هذا الوصف ولم يقل هزيمة. وفى معركة رأس العش نجحت قوات الصاعقة المصرية باسلحتها الخفيفة فى التصدى لمحاولة الدبابات والمدرعات الإسرائيلية احتلال بورفؤاد. ثم جاء إغراق المدمرة إيلات وحرب الاستنزاف، التى شهدت بدورها معركة بناء حائط الصواريخ.
** 28 سبتمبر 1970 رحل جمال عبدالناصر، وعلمت قبل الإعلان الرسمى عن رحيله بساعات، فقد كنت بالمصادفة فى منزل صديقى دكتور خالد البرلسى نجل وزير التعليم العالى دكتور عبدالوهاب البرلسى فى ذاك الوقت. وبكينا قبل أن يبكيه ملايين المصريين. وتولى الرئيس السادات المنصب الرفيع، وهو محاط بالشك فى قدرته على الثأر وخوض معركة الكرامة واسترداد الأرض، وتحمل الرئيس السادات ما لا يتحمله بشر. تحمل مظاهرات طلبة الجامعة عام 1972، وكنا خرجنا فى تلك المظاهرات نطالبه بالحرب.
** صيف 1973، مثل الآلاف من طلبة الجامعات المصرية سافرت إلى لندن للعمل فى مصانعها ومزارعها، وبعد قرابة ستة أشهر هناك أخذنا نستعد للعودة للقاهرة يوم 10 أكتوبر. وبينما ننتظر لحظات اللقاء مع الوطن بعد غربة طويلة فوجئنا بالحرب وكان ذلك تحديدا فى السادسة مساء بتوقيت العاصمة البريطانية يوم السادس من أكتوبر. وأتذكر أننا توجهنا إلى الصحف الإنجليزية الصادرة فى المساء، وكانت عناوينها شديدة الإنصاف للقوات المسلحة المصرية وأتذكر منها: «المصريون عبروا قناة السويس». «معارك ضارية شرق قناة السويس». الجيش المصرى يفاجئ إسرائيل ويحطم خط بارليف فى ساعات».
** مرة أخرى حركتنا مشاعرنا الوطنية والفرحة، ومضينا فى شوارع العاصمة البريطانية نهتف: تحيا مصر. نهتف ونبكى فرحا. والشوق للعودة إلى مصر ينهش قلوبنا وعقولنا، وأخذنا نتابع أخبار الحرب عبر شاشات التليفزيون البريطانية، وقد كانوا ينقلون تطور المعارك والموقف دون تحيز. وفى يوم 16 أكتوبر نقل التليفزيون البريطانى خطاب الرئيس السادات فى مجلس الشعب، ثم نقل خطاب جولدا مائير فى الكنيست فى اليوم نفسه.
** أغلق مطار القاهرة حتى 29 أكتوبر، وفى ذاك اليوم بدأنا رحلة العودة إلى أرض الوطن، بعد فتح المطار. أتذكر أن كثيرا منا قبلوا أرض المطار فور الهبوط من الطائرة. وأن سائق التاكسى الذى أقلنى إلى منزلى رفض بشدة أن يتقاضى أجره، تكريما لطالب عاش حرب أكتوبر فى الغربة أو فرحا بالانتصار والثأر. وقد كان سلوكه تعبيرا عن حالة المجتمع المصرى ووعيه، وتعبيرا عن جيل عظيم من شعب مصر ضحى وتحمل مرارة هزيمة مفجعة، وصبر وانتصر. ياربى، بعد خمسين سنة تجرى دموعى مرة أخرى.
** تحيا مصر..

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved