التكنولوجيا والحروب

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: الجمعة 3 نوفمبر 2023 - 8:52 م بتوقيت القاهرة

يقولون إن الحاجة أم الاختراع أى أننا عندما نكون تحت ضغط فإن هذا يدفعنا إلى التفكير السريع والمبدع فى الوقت ذاته للوصول إلى حل يخرجنا من هذا الضغط، نجد ذلك فى التاريخ عندما كان الإنسان يبحث عن مأوى يحميه من تقلبات الطبيعة وأخطار البيئة ونجده أيضا عندما كان تحت ضغط الجوع، كل ذلك أدى إلى اختراع المنازل وأدوات للصيد والزراعة... إلخ. ليس هناك فى العصور الحديثة ما يضع الإنسان تحت ضغط أكثر من الحروب والتى تنشأ نتيجة لأطماع التوسع والسيطرة على الموارد المحدودة وعلى البشر. الحروب تضع الإنسان فى مواجهة أخطار كثيرة وبالتالى تحت ضغط كبير مما يدفعه إلى الإسراع فى الابتكار ووضع الأفكار موضع التنفيذ. فى مقالنا اليوم سنتحدث عن التطور التكنولوجى الذى ولد من رحم الحروب ثم وجد طريقه إلى الحياة المدنية بعد ذلك وكيف أن استخداما عسكريا لتكنولوجيا ما يمكن أن يجد استخداما آخر فى الحياة اليومية فى أوقات السلم فلنبدأ.
...
إذا نظرنا إلى تجربة أمريكا فى الحربين العالمتين وفى فيتنام لوجدنا أن من أكبر أسباب متاعبها أن القذائف الموجهة كانت تخطئ أهدافها أكثر من 80% من المرات وكان لزاما البحث عن حل لهذا الموضوع. الحل جاء من الشركات التى ولدت وترعرعت فيما يعرف الآن بوادى السيليكون (وهو اسم لم يُطلق على تلك المنطقة حتى سنة 1971) فى ولاية كاليفورنيا. بدأ الموضوع فى ولاية نيوجيرسى فى معامل بيل (Bell Labs) حيث تم اختراع ما يعرف الآن بالترانزستور، ثم انتقل ويليام شوكلى أحد مخترعى الترانزستور والحاصل على جائزة نوبل فى الفيزياء بالمشاركة مع جون باردين (الذى حصل على نوبل الثانية فى الفيزياء أيضا فى وقت لاحق) ووالتر براتين إلى كاليفورنيا فى المكان الذى سيعرف فيما بعد بوادى السيليكون لإنشاء شركة لتصنيع الترانزستور واستخدامه فى الدوائر الإلكترونية. الترانزستور هو وحدة بناء أجهزة الكمبيوتر التى نستخدمها فى حياتنا سواء فى ساعات اليد أو الهواتف الذكية حتى أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة. فشلت شركة شوكلى بسبب عدم قدرته على الإدارة فقد كان عالما فذا وإداريا فاشلا لكن شركته هذه مهدت الطريق لظهور شركات أخرى مثل فيرتشايلد ثم إنتل من بعدها وتوالت الشركات. نجحت تلك الشركات ليس بسبب الإدارة فقط، ولكن بسبب التمويل الضخم القادم من الحكومة الأمريكية لها وبالذات من الجيش الأمريكى الذى كان الزبون الأكبر، بل والأوحد لفترة من الزمن لأغلب هذه الشركات. مع اختراع الترانزستور ثم التقدم الكبير فى تصنيعه تم تصميم وتصنيع دوائر إلكترونية أسرع وأصغر حجما تقوم بالحسابات اللازمة لتوجيه المقذوفات ثم التحكم فى مسارها حتى تصيب أهدافها بدقة، وتم استخدام تلك التقنية أيضا فى وكالة ناسا وهى حكومية أيضا، ثم انتقلت هذه التكنولوجيا إلى الحياة العامة وأصبحنا نراها فى أجهزة اللابتوب والساعات الذكية والتابلت... إلخ.
تم استخدام تقنية الدوائر الإلكترونية التى أصبحت صغيرة الحجم وسريعة للقيام بالحسابات التى تحتاجها أجهزة الاتصالات لإرسال المعلومات والتشفير والشوشرة... إلخ، وكان له أثره فى تطوير أجهزة الرادارات ثم الطائرات والغواصات التى لا تكشفها الرادارات وقد ظهرت تلك التكنولوجيا فى شركة أيضا والتى أصبحت تعرف الآن باسم (Qualcomm).
كل ذلك جعل لأمريكا اليد العليا على الاتحاد السوفيتى آنذاك فيما يتعلق بالقوة العسكرية مما كان له أثره فى الحرب الباردة.
...
الاتحاد السوفيتى كان يتفوق على أمريكا فى الأربعينيات والخمسينيات فى عدد القطع الحربية وظل هذا التفوق إلى الستينيات، لكن فى فترة الستينيات ونظرا لتلك التكنولوجيا التى تكلمنا عنها فقد تفوقت أمريكا تفوقا كاسحا فى الكيف مما يعطيها اليد العليا فى أى حرب محتملة مع الاتحاد السوفيتى. كان من أثر ذلك وجود منافسة شديدة بين الدولتين ونشاط جم للمخابرات السوفيتية للحصول على أسرار التكنولوجيا الأمريكية كما شرح بدقة وبأسلوب بديع كريس ميللر أستاذ التاريخ الدولى فى كتابه «حرب الرقائق» أو (Chip War). التفوق التكنولوجى الأمريكى على الاتحاد السوفيتى أتى من عدة عوامل:
• التضييق الأمنى الخانق من المخابرات السوفيتية على مواطنيها خاصة العلماء منهم أدى إلى عدم قدرتهم على مواكبة التطور التكنولوجيا الأمريكى، والكتاب المذكور أعلاه أعطى أمثلة من ذلك.
• أمريكا استفادت من استخدام عمالة رخيصة من الدول الآسيوية وهو ما لم يفلح فيه الاتحاد السوفيتى.
• صناعة الدوائر الإلكترونية يحتاج إلى مواد خام كثيرة بالإضافة إلى خبرات فى البرمجيات والهندسة الإلكترونية... إلخ، وقد استفادت أمريكا من تعاونها مع دول عديدة فى العالم ولم يتمكن الاتحاد السوفيتى من ذلك نتيجة الستار الحديدى الذى فرضه على نفسه.
• الشركات الأمريكية استفادت من تسويق التكنولوجيا فى الحياة المدنية وهو ما لم يفعله الاتحاد السوفيتى.
كل هذه العوامل تقول لنا إن التكنولوجيا تولد من رحم الحروب أو الأزمات، ولكنها تترعرع فى حياة السلم وعن طريق التعاون مع الدول الأخرى وبين المؤسسات فى الدولة الواحدة. سواء فى حالة الحرب أو السلم فإن قاطرة التقدم تتمثل فى البحث العلمى.
...
البحث العلمى والتطوير يحتاج ميزانيات ضخمة. أغلب دول العالم تضع الجزء الأكبر من ميزانياتها للأنشطة العسكرية لكن الجزء المخصص للبحث العلمى والتطوير يكون أصغر كثيرا. فى كل الأحوال يحتاج التطوير التكنولوجى الحربى إلى ميزانيات ضخمة لا تتوفر لأغلب دول العالم، فماذا عسانا أن نفعل إن كنا لا نمتلك تلك الميزانية؟ هناك عدة خطوات يمكن السير فيها:
• تحديد المجالات التى نريد خبراء فيها ونشجع الطلاب على التخصص فيها فى الجامعات عن طريق منح أو تدريب فى الإجازات الصيفية لاكتشاف الموهوبين منهم والاستفادة من خبراتهم.
• إرسال البعثات لدراسة التكنولوجيات المتطورة التى تستخدمها الدول المتقدمة تكنولوجيا على أن تكون تلك البعثات موجهة نحو تخصصات معينة موضوعة ضمن خطة كبيرة لبناء البحث والتطوير العسكرى قوى، وعادة تكون تلك الخطوة متوسطة إلى طويلة المدى، أى لن يظهر أثرها على المدى القصير.
• الاهتمام بالحاسبات فائقة السرعة واستخداماتها العسكرية.
• التدريب على صيانة الأسلحة المتطورة وتصنيع قطع غيارها محليا. هذا ليس سهلا طبعا لأن الدول التى تصدر تكنولوجياتها تحاول الاحتفاظ بأسرارها، لكنه ليس مستحيلا أيضا.
• من المفيد متابعة مشروعات التخرج وأبحاث الماجستير والدكتوراه فى مصر أولا لاكتشاف الموهوبين والاستفادة منهم، وثانيًا للاستفادة من أفكار تلك المشروعات والرسائل العلمية بدلا من أن تظل حبيسة الأدراج.
• على الجانب النظرى يجب دراسة تاريخ الحروب جيدا خاصة تلك الحروب التى انتصرت فيها الجيوش ذات التكنولوجيات الأقل تطورا وذلك لمعرفة جوانب الضعف فى تلك التكنولوجيات وكيفية استغلالها.
التكنولوجيا من أكبر المؤثرات فى التاريخ ومن المهم امتلاك ناصيتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved