استضعاف مصر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 3 يونيو 2013 - 10:43 ص بتوقيت القاهرة

فى لحظة فاصلة فى تاريخ القارة عند مطلع الستينيات، تبارت دولتان على استضافة مقر منظمة «الوحدة الأفريقية»، أولاهما غانا تحت قيادة بطل تحريرها «كوامى نكروما».. وثانيتهما إثيوبيا تحت قيادة امبراطورها العتيد «هيلاسلاسى». راهن «نكروما» على الدور الجوهرى الذى لعبه فى عملية تحرير القارة بجوار «ناصر» و«سيكوتورى» و«لومومبا»، وعلى إسهاماته البارزة فى بلورة فكرة «الوحدة الأفريقية» نفسها.


غير أن القاهرة أبدت قلقها على مستقبل المنظمة الوليدة من الاضطرابات الناشئة فى غانا المستقلة حديثا، ودخلت فى حساباتها اعتبارات دمج الدول الأفريقية التقليدية فى المنظومة القارية الجديدة على أرضية ميثاقها الذى جرت صياغته من معاناة التحرر والاستقلال.. وكمنت فى الظلال ضرورات اتصال العلاقات الوثيقة مع دول حوض النيل وفى مقدمتها إثيوبيا، خاصة أنها بدأت فى ذلك الوقت بناء سدها العالى. لم يتقبل بسهولة الزعيم الغانى ما حسمته القاهرة من اختيار «أديس أبابا» مقرا دائما لمنظمة الوحدة الأفريقية، التى يطلق عليها الآن «الاتحاد الأفريقى». غضب وعاتب لكنه التزم فى النهاية.. وقد كان قريبا من عقل وقلب «جمال عبدالناصر».

 

لم يهبط الدور المصرى على أفريقيا فجأة من بين أشجار غاباتها ذات صباح مشمس، فقد استند إلى سياسات التزمت بقضاياها ودفعت تكاليفها من امدادات سلاح وتدريب عليه وتمويل حركات التحرير بما تحتاجه من عون وتوفير مقار آمنة لقادتها وبث إذاعات موجهة بلغاتها المحلية تخاطب مواطنيها، وفيما كانت القوى الاستعمارية تخلى مواقعها من القارة سعت القاهرة بقدر ما استطاعت أن تملأ الفراغ.

 

وتوافرت السلع المصرية فى الأسواق الأفريقية، ودخلت شركات المقاولات المصرية طرفا رئيسيا فى إنشاء الجسور والطرق والمبانى الحديثة. حضرت مصر بثقلها العربى والأفريقى ممتدا إلى عالمها الثالث فى قلب المعادلات الدولية، وكانت القاهرة إحدى العواصم الرئيسية فى العالم، فمصر دولة نامية بحسابات قوتها الذاتية لكنها دولة كبرى بحسابات عالميها العربى والأفريقى على ما كان يعتقد «عبدالناصر» ذات يوم بعيد.

 

مشكلة حقيقية الآن فى مصر، وأزمة مياه النيل تصدمها فى مستقبلها، أنها قد تستدعى التاريخ فى غير موضعه وتطلب الدور بلا تكاليفه، أو تتصور أنها لها ذات المكانة التى كانت.. ومصر لديها مشكلة أخرى مع تاريخها، فهى لا تدرك بما يكفى تبعات تنكرها على مدى نحو أربعة عقود للقارة الأفريقية والانسحاب من تفاعلاتها وقضاياها.

 

ندفع الآن الثمن فادحا للانسحاب من القارة الذى تزامن مع انسحاب آخر من العالم العربى بعد حرب أكتوبر. الانسحابان المتزامنان لخصتهما معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ورغم أنها لم تتطرق فى نصوصها وترتيباتها للدور المصرى فى القارة الأفريقية لكن مقتضى التزاماتها دعا إلى إهمال منهجى لأفريقيا، وبدا أن الرهان على دور أمريكى يمتلك وحده (٩٩٪) من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط، على ما قال الرئيس الأسبق «أنور السادات»، يمتد بنفس النسبة إلى أفريقيا.

 

سادت تصورات أن الالتحاق بالضفة الأخرى من شواطئ المتوسط حيث أوروبا المتقدمة يفتح الأبواب لمستقبل آخر بلا صداع أفريقيا وقضاياها، وهى تصورات صاحبتها إيماءات تعال وعجرفة. الفراغ الذى ترتب على الانسحاب المصرى من القارة ملأه آخرون، بشكل ما حاولت الجزائر على عهد رئيسها «هوارى بومدين» لكنها تراجعت قبل أن تنزوى محاولاتها بالحرب الأهلية.. وحاولت ليبيا على عهد عقيدها «معمر القذافى» لكن ارتباكات سياساتها أفضت إلى مشاهد هازلة لـ«ملك ملوك أفريقيا»!

 

تبارت قوى دولية وإقليمية أخرى فى التمركز داخل القارة على مدى عقود، فرنسا تواجدت أولا بالوكالة عن الولايات المتحدة قبل أن تدخل الأخيرة بصورة مباشرة، وإسرائيل لحقتها، ولم تتوان الصين عن احتلال مراكز نفوذ مستجدة فى القارة وحاولت روسيا أن تستعيد بعض ما كان للاتحاد السوفيتى السابق من نفوذ فيها.

 

قد لا تلتفت القوى الدولية والإقليمية الحاضرة الآن فى المشهد الإثيوبى، وبعضها دول خليجية، لعدالة الطلب المصرى ألا يمس سد النهضة حصتها فى المياه، فالدول التى لا تدرك كيف تتصرف على مدى طويل فى قضايا أمنها القومى، وتفرط فى علاقاتها مع دول حوض النيل، وتعزل نفسها بصورة مزرية عن محيطها، وتخسر أوراق قوتها واحدة تلو أخرى، يصعب أن تتوقع أن يعاملها الآخرون باحترام أو يستمعون إلى عرائض دفاعها باهتمام.

 

فى أزمة مياه النيل تبدو مصر معزولة تماما، فمن الصعب التعرف على دول أفريقية تؤيدنا، أو على أطراف دولية تتبنى قضيتنا، والقضية إذا ما أحسن عرضها على العالم فإنها عادلة تماما، فبناء سد «النهضة» يهدد مصر بمجاعة مائية وتبوير نحو ثلاثة ملايين فدان وينتقص من قدرة سدها العالى على إنتاج الكهرباء بنسبة (٣٠٪)، لكن لا أحد مستعد أن يحارب بالوكالة عن دولة لا تعرف كيف تدير معاركها، ولا تقف مع آخرين فى معارك مماثلة تتمتع بالدرجة ذاتها من العدالة. العزلة من أثمان الانسحاب من القارة، والاستضعاف من تبعات التفريط فى أوراق القوة واحدة إثر أخرى.

 

المثير فى قصة «سد النهضة» أن الإعلان عنه جرى فى فبراير (٢٠١١) خلال انشغال مصر بحوادث ثورتها، تبدت فى تلك اللحظة مقاربتان أفريقيتان من مصر وثورتها.. الأولى حاولت أن تقتنص لحظة الارتباك لوضع أقدام غليظة على شريان حياتها، بلا تشاور معها أو دراسات كافية أو قدرة على التمويل، على النحو الذى اتبعته إثيوبيا.. وفى الظلال قوى أخرى تخطط وتحرض، والتعاقد الإثيوبى بالأمر المباشر مع شركة إسرائيلية لإدارة وتوزيع وبيع كهرباء سد النهضة رسائله لا تخفى.

 

الاستضعاف يفضى بدوره إلى صدمات أخرى قد تفوق ما جرى حتى الآن فى ملف النهضة وسدها.. والثانية حاولت أن تقترب فى لحظة التحول الثورى من مصر باعتقاد أنها يمكن أن تستعيد بثورتها الجديدة ثقلها فى المنطقة، وأن التحالف معها يساعد على تماسك القارة، وبصورة متواترة أرسلت جنوب أفريقيا رسائلها واحدة إثر أخرى عبر سفيرتها فى القاهرة، وعلاقاتها الوثيقة بالرئيس «جاكوب زوما»، دون أن يبدى أحد اهتماما بالرسالة أو يحاول أن يقرأ محتواها.. وبمضى الوقت فتر الحماس الجنوب أفريقى، الذى عرض التدخل للمساعدة فى حل أزمة مياه نهر النيل، بعد أن تراجعت صورة مصر والرهانات على ثورتها، فلا أحد يراهن على وهن مقيم أو يسعى لتحالف مع فشل مزمن.

 

وقد لخص الاستهتار الإثيوبى بالرئاسة المصرية فى «أديس أبابا» الموقف كله، استقبلته وزيرة التعدين بصورة دعت كثيرين إلى الاعتقاد بأنها كانت تتسوق قبل أن تصدر إليها التوجيهات بالذهاب إلى المطار لاستقبال الرئيس المصرى، قطعت عنه الكهرباء أثناء إلقاء كلمته فى القمة الأفريقية، وكان المشهد ماسا بكبرياء الدولة التى أسست المنظمة الأفريقية، وحسمت اختيار «أديس أبابا» مقرا دائما، لم يكن «مرسى» على مستوى الرئاسة أو التصرفات التى تحكمها، لكن الإهانة بدت متعمدة كدقات إنذار لما سوف يحدث بعد (٢٤) ساعة من تحويل مجرى النيل الأزرق والبدء فى إنشاء سد النهضة دون أن تفكر إثيوبيا، وهو موجود فى عاصمتها، أن تخطره بالخطوة التى تعتزمها فى اليوم التالى.

 

طريقة التعامل معه فيها استضعاف للبلد الذى يحكمه، والدول تتعامل بحقائق القوة لا بروايات التاريخ.. وما يراه العالم فى مصر من حالة الانكشاف السياسى والاقتصادى والاستراتيجى، وأن الذين يحكمونها مجموعة هواة يفتقرون إلى الرؤية والكفاءة معا، قد تستدعى استضعافا مضافا، فعلى مدى عام كامل من تولى الدكتور «مرسى» الحكم بدا أنه لا يلم بملفات المياه وحقيقة ما يجرى والتداعيات الخطيرة التى تلحقه، وكان مساعده للشئون الدولية على المستوى نفسه من عدم الإلمام بالملف، والمأساة أن الدكتور «هشام قنديل» الرجل الذى جئ به رئيسا للحكومة كان وزيرا للرى، وخليفته على مقعده الوزارى من اختياره شخصيا، كان مفاجئا بدوره.

 

تراوحت التصريحات الرسمية فى مساحات مختلفة من التهوين قبل أن ترفع سقفها اللفظى تحت ضغط الإعلام، وبدت البلد فى حالة إدارة بائسة لا تقنع أحدا فى مصر أن يطمئن ولا تدعو أحدا فى أفريقيا أن يتضامن. القضية لا تلخصها درجة ارتفاع الصوت، فهناك فارق بين الحزم الضرورى وبين الصراخ فى أحراش أفريقيا.. وهناك فارق بين عشوائية إدارة الأزمة وأن تكون هنا خطة حركة على المسارات المختلفة، وأولها، التفاوض على ألا يفضى بناء السد إلى الإضرار بحصة مصر المائية، وثانيها، التوصل إلى صيغة تعاون اقتصادى وفنى جديدة مع دول حوض نهر النيل، وثالثها، المسار القانونى وفى مصر أساتذة قانون دولى على صلة بالملف، ورابعها، المسار العسكرى، والكلام فيه لا يصح الحديث فيه باستهتار ولا استبعاده بإطلاق.

 

أزمة مياه النيل خطيرة إلى حد يستدعى استبعادها من التجاذبات السياسية، وأن تديرها لجنة خبراء من الرى والخارجية والقانون الدولى والمخابرات وهندسة السدود تفوض بصلاحيات كاملة وتعرض الحقائق أمام الرأى العام، ومن المفيد لمصر وقضيتها أن يترأسها «محمد فائق» ودوره مشهود فى تحرير القارة وصداقاته ممتدة مع قادتها، وجوده على رأسها لا يغير حسابات المصالح واعتبارات القوة، لكنه يستدعى احتراما عندما يتحدث واستماعا عندما يقول، وهذا ضرورى لبلد جرى استضعافه بصورة فادحة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved