الخلاف على الأسماء تهديد للسلام

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 3 فبراير 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

أتفهم الكثير من الانتقادات التى عادت تنهمر على إدارة الرئيس باراك أوباما وبخاصة على سياستها الخارجية. كانت نية الرئيس الأمريكى، ولعلها لا تزال قائمة، التركيز على آسيا وبشكل خاص على شرق آسيا. افترضت الإدارة الأمريكية أن الشرق الأوسط إقليم أزمات مستديمة، وأن الانخراط فيها أو الانشغال بها قد يسبب مزيدا من تبديد إمكانات القوة الأمريكية وبخاصة إمكاناتها المعنوية وبالأحرى الإمكانات الناعمة.

***

واضح لى أن الحيرة والتردد عادتان تشوهان صورة السياسة الأمريكية. ثبت أن أسلوب القيادة من الخلف لم ينفع فى استعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط. بل على العكس لعله تسبب فى زيادة هائلة فى قوة وعنف المنظمات الإرهابية وأفكار التطرف الدينى والعصبيات القومية والطائفية. كذلك لم ينفع فى وقف تدفق اللاجئين والمهاجرين ليس فقط إلى أوروبا بل إلى أمريكا الشمالية ذاتها.

يصر بعض المحللين على أن هذه الإدارة تتحمل نسبة معتبرة من مسئولية تدهور حال الأمن الجماعى الأوروبى، وانحسار ثقة الأوروبيين فى مستقبل القارة وبخاصة ما يتعلق بمواجهاتها المحتملة مع القوة الروسية الصاعدة وطموحات فلاديمير بوتين الشخصية وتطلعات المؤسسة الأمنية الروسية.

***

من ناحية أخرى. لم تحصل دول آسيا على الاهتمام الذى وعدتها به إدارة الرئيس أوباما. تباطأ تنفيذ خطط نقل التركيز إلى آسيا. ولم تحقق علاقات أمريكا بدول الجوار الصينى إنجازا ملحوظا فى مجالات الدفاع والأمن. بينما استمرت تتصاعد بوتيرة متسارعة استعدادات الصين فى جميع قطاعات التسلح والتدريب والمناورات، وزاد من توتر الأوضاع فى الإقليم إقدام الصين على إقامة جزر اصطناعية فى بحر الصين الجنوبى والربط بين بعضها البعض فيما صار يشكل حدودا إقليمية أوسع على حساب الحدود الإقليمية للدول الأخرى المطلة على هذا البحر. فى الوقت نفسه استمرت الصين فى تنفيذ خطتها نحو ربط اقتصادات هذه الدول بالاقتصاد الصينى وخلق درجة أعلى من الاعتماد المتبادل. لا يمكن تجاهل حقيقة تزداد وضوحا بمرور الوقت وهى أن الصين أصبحت بدون شك تقود فى آسيا فى أكثر من مجال وموقع بينما أمريكا لاتزال معتمدة أسلوب القيادة من الخلف، رغم ما أصاب مصالحها وهيبتها الدولية من ضرر بسبب التمسك بهذا الأسلوب.

***

انشغالنا بأمور الشرق الأوسط جعلنا لا نلتفت بالقدر الكافى إلى أمور الشرق الأقصى. أتحدث هنا عن المجتمعات الأكاديمية العربية من أساتذة علاقات دولية إلى مجالس للشئون الخارجية إلى مراكز بحوث ودراسات. لم نهتم بتطورات العلاقات الصينية اليابانية أو بالتوتر المتصاعد فى منطقة جنوب شرق آسيا، وبخاصة بين الصين من جهة ومجموعة الدول التى تتشارك فى مياه بحر الصين الجنوبى.

استخدم هنا متعمدا وبتكرار أيضا متعمد اسم بحر الصين الجنوبى، باعتبار أن هذا التعبير فى حد ذاته يتصدر الآن عديد القضايا المختلف عليها بين دول جنوب شرقى آسيا.

***

تلعب الأسماء دورا مهما فى عدد من النزاعات الدولية، ولا شك أنه سيكون مثيرا متابعة عمل اللجنة المشكلة فى الأمم المتحدة لدراسة قضايا ونزاعات الأسماء. نعرف أن الشعوب تتمسك بأسماء نشأت عليها فاستقرت فى وجدانها. أذكر جيدا رد فعل غالبية المصريين عندما تقرر استبدال اسم مصر بالجمهورية العربية المتحدة وتغيير علمها. أذكر أيضا الرفض الشعبى الأرجنتينى المتواصل للتسمية البريطانية لجزر لاس مالفيناس فى جنوب المحيط الأطلسى بجزر الفولكلاند. نعرف كذلك ما فعلته اسرائيل حين عبرنت أسماء جميع المدن والقرى العربية فى فلسطين المحتلة. هكذا تمحى الأوطان من سجلات التاريخ وتسجل أوطان أخرى.

***

الصين، مثل غيرها من الأمم، تتمسك باسم بحر الصين الجنوبى لأسباب عديدة. هو الاسم الذى تداولته الأطالس الكبرى فى العالم منذ مطلع العصر الحديث، وهو الاسم الذى يعزز «معنويا» مكانة الصين الإقليمية ويؤكد للصينيين وشعوب الإقليم حقوق الصين التى تراها من وجهة نظرها حقوقا مشروعة فى جنوب آسيا. فضلا عن أنه تمر من خلال هذا البحر نسبة كبيرة من تجارة آسيا الخارجية، وتقع عليه أضخم مخازن للسلاح ومرافئ للغواصات والأساطيل. من شواطئ الصين المطلة على هذا البحر خرجت أكبر حملة استكشافية فى تاريخ امبراطوريات الصين ووصلت إلى إفريقيا وتخرج منها الآن قوافل التجارة فى جهد جديد لإحياء طريق الحرير وتنويع مساراته وأهدافه بما يتفق وطموحات الصين الكونية. لن تغنى مشروعات مد السكك الحديدية والطرق البرية عبر أوراسيا عن بحر الصين الجنوبى وعديد الموانى التى تنشئها الصين أو تساهم فيها فى دول جنوب آسيا وشرق إفريقيا.

ارتفعت فى الشهور الأخيرة وتيرة مطالبة بعض الدول الإقليمية تغيير اسم بحر الصين الجنوبى. تقترح فيتنام، الخصم اللدود للصين تاريخيا وحاليا، أن يحل محله اسم بحر جنوب شرقى آسيا، ليكون الاسم الجديد دالا على «وحدة إقليمية مرجوة وتكامل وسلام وأمن متبادل وسياسات حسن جوار. الصين ترفض وتصر على التمسك بالاسم الذى عرفه العالم على مر القرون الحديثة ورسخ فى ذهنية الشعب الصينى. لم تدع الدبلوماسية الأمريكية الفرصة تمر دون أن تتدخل. تعرف الولايات المتحدة أن الاسم وإن كان رمزا لا أكثر ولا أقل. إلا أن خلافا بشأنه فى ظل حالة التطرف القومى السائدة فى الاقليم قد يتسبب فى تسخين الأجواء وإثارة مشكلات أمام محاولتها التوصل إلى صيغة تضمن تقييد فرص الصين فى فرض هيمنتها، وفى الوقت نفسه الاستعداد لإقامة منطقة التجارة عبر الباسيفكى، التى هى فى حقيقة الأمر حلم أمريكا للعقود القادمة. لذلك اقترحت أمريكا أن يطلق على البحر اسم «بحر الجنوب» مستندة إلى أن أطالس الصين التاريخية اختارته اسما لهذا البحر. تخشى أمريكا أنه إذا انفتحت من جديد سيرة الأسماء الجغرافية فلن يكون من السهل وقفها قبل أن تتسبب فى أزمات إقليمية ودولية شديدة التعقيد. كوريا مثلا تطالب بتغيير اسم بحر اليابان، روسيا واليابان يرفضان تقديم أى تنازل فى النزاع الناشب حول أسم شبه جزيرة فى أقصى شرق القارة. ولدينا فى الشرق الأوسط نوايا لإيقاظ أزمة قديمة وشهيرة بتسخينها على نار هادئة، وهى المتعلقة بإصرار إيران على أن يحمل الخليج الفاصل بين جزيرة العرب وإيران اسم بلاد فارس، وإصرار العرب، المتردد أحيانا، بإطلاق صفة العربى عليه، بينما خرجت أصوات دولية واقليمية أخرى تطرح فكرة الاكتفاء باسم الخليج، رغم ما يحمله هذا الاسم من قصور بسبب كثرة الخلجان الإقليمية والدولية التى تحمل الاسم ذاته. هنا يتدخل المتمسكون باسم الخليج العربى مذكرين برواية النبى سليمان مع امرأتين دخلتا فى نزاع على نسبة رضيع.

غالبا لن توافق الصين على الاقتراح بتسمية بحر الصين الجنوبى، بحر الجنوب، رغم أن للاسم تراثا طويلا فى التاريخ الصينى القديم. الاسم قد يكون ملائما فى عصر لم يكن هناك فى الإقليم كيان بحجم وقوة إمبراطورية، هى فى نظر شعبها وحكامها، الكون كله، وأن كل ما يقع خارجها ينسب إليها، فالبحر الذى تطل عليه فى الجنوب هو بحر الجنوب نسبة إلى موقعه منها، وكذلك البحر الذى تطل عليه فى الشرق مع اليابان، هو بحر الشرق نسبة إلى موقعه منها.
أتصور أننا سوف نشهد فى السنوات القليلة القادمة جدلا حول تسمية أنهار وبحار وجبال وأراضى شاسعة، مثل القارة الجليدية، من المتوقع أن تخضع لاقتراحات بالتغيير وإعادة التسمية، أو أسماء جديدة. هنا فى الشرق الأوسط، يجب أن نتوقع مع التسويات الحالى الاستعداد لها أسماء ليس فقط لدول جديدة، بل وربما لشعوب تقرر لنفسها أن تختار صفات وهويات وأسماء جديدة أو تترك غيرها يختارون لها.

***

فى غياب قيادة واعية ومتفرغة لنظام دولى يموج بشتى انواع النزاعات وبعضها نزاعات مبتكرة أو مركبة أو ناشبة لأسباب فى أحسن أحوالها رمزية كالرغبة فى تغيير أسماء وفى أسوئها واهية، يصعب وضع تصور لخريطة تتضح فيها ملامح لمستقبل الأمن والسلم فى العالم ككل وفى أقاليم بعينها كالشرق الأوسط وجنوب شرقى آسيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved