العالم فى العام الجديد

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 3 يناير 2022 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

عندما كنا نستشرف الأوضاع الاقتصادية فى عام 2018 لم يكن أحد حينها يتصور أن جائحة يمكن أن تضرب العالم، وتسيطر على جميع مقدرات البشر. اليوم يتجاسر البعض بوضع سيناريوهات شبه مؤكدة لما سوف يكون عليه العالم فى عام 2022 من الناحية الاقتصادية والسياسية بل والصحية أيضا! الوباء مازال موجودا، ومازال يتطور ويتحوّر، لكن مؤشرات البورصات فى نهاية العام المنصرم لم تعد تعكس استشعار المتعاملين بخطورة حقيقية لمتحور كورونا «أوميكرون»، وتعتقد أن تراجع معدلات الوفيات ونسب الإشغال بالمستشفيات نتيجة الإصابة بالمرض دليل قاطع على هزيمة الوباء فى أبشع صوره. العلماء المختصون فى مجال الأوبئة لهم رأى آخر، فاحتمال تطور الفيروس إلى متحوّر أضعف يقابله احتمال تطوره إلى متحوّر لا يقهر. ترى أعلم الناس وقد وقف خاشعا أمام هذا الوباء القاتل، ليخبر مضيفه فى قنوات الأخبار العالمية أنه ببساطة: لا يعلم.
الأضرار الاقتصادية لمتحوّر «دلتا» فاقت من وجهة نظر البعض التداعيات الصحية للمرض، بعد أن امتنع الكثير من العمال فى أوروبا والولايات المتحدة وعدد من دول العالم الأخرى عن الذهاب إلى أشغالهم اتقاءً للعدوى. اضطربت سلاسل الإمداد بشدة خلال عامى 2020 و2021، مما خلق موجات متتالية من التضخم، عزز منها أزمة مواد الطاقة التى اندلعت لأسباب مختلفة، منها إعادة التشغيل بعد توقف شبه تام للنشاط الاقتصادى، وزيادة الطلب على المواد البترولية ومشتقاتها وخاصة الغاز الطبيعى، الذى يفتقر إلى صانع للسوق بذات كفاءة مجموعة أوبك. أما فى العام الجديد 2022 فقد اعتزمت الدول الكبرى محاصرة التضخم بشكل فعّال، وتحرّكت الولايات المتحدة الأمريكية فى اتجاه انكماشى غير مسبوق فى وتيرته منذ سنوات، لقطع مشتريات الفيدرالى الأمريكى من السندات الحكومية بشكل تام بحلول مارس المقبل، ووضع خطة لمحاصرة التضخم عبر تحريك وشيك لأسعار الفائدة ثلاث مرات خلال العام الحالى. الأمر الذى من شأنه أن يترك أثرا سلبيا على أوضاع الدول والمؤسسات المدينة بالدولار الأمريكى والعملات الصعبة بصفة عامة، يخشى أن يكون شبيها بما حدث عام 2013 وعرف بالـtaper tantrum نتيجة لارتفاع العائد على سندات الخزانة الأمريكى أجل عشر سنوات من نحو 2% فى مايو إلى 3% فى ديسمبر من العام نفسه.
***
العالم إذن يتوقّع مخاطر استمرار موجات التضخم خلال النصف الأول (على الأقل) من العام 2022 تحت تأثير صدمات الطاقة وأزمات عنق الزجاجة فى بعض سلاسل الإمداد، لكنه يتوقع أيضا سيطرة ثقافة التضخم على سلوك المنتجين لفترة أطول من ذلك، فى حركة أشبه بالقصور الذاتى. هذا كله بفرض وقوع الاحتمال الأفضل، وهو عدم ظهور متحور مخيف لكورونا طوال العام يأتى على الأخضر واليابس. وكذلك تتوقع الدول الناشئة أزمة ديون جديدة على خلفية التحركات الانكماشية للدول الكبرى الدائنة، ما لم يتم الاستجابة إلى النداءات المتكررة لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين، لمراعاة مخاطر تفجر تلك الأزمة عند التعامل مع أسعار الفائدة فى الدول المتقدمة.
يضاف إلى ذلك تصاعد احتمالات وقوع هجمات إلكترونية (سيبرانية) على المرافق الحيوية بعدد من دول العالم، تماما كما حدث العام الماضى مسببا إغلاق خط أنابيب كولونيال «Colonial Pipeline» وهو أكبر نظام لنقل المنتجات البترولية المكررة فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يوفر 45٪ من وقود الساحل الشرقى. وقد تسبب الهجوم، الذى كان يهدف إلى تحصيل فدية مالية، فى ارتفاع أسعار البنزين ونفاد الوقود من محطات الوقود فى العديد من ولايات الساحل الشرقى الأمريكى، نتيجة إغلاق الخط خلال الفترة بين 7 و 12 مايو 2021.
نجاح هذ النوع من الهجمات أصبح كاشفا لمدى هشاشة العديد من الأنظمة الإلكترونية المتحكمة فى إدارة المرافق الحيوية والمنشآت المهمة وحتى المؤسسات الحكومية فى مختلف الدول، مما يضيف أعباءً مالية كبيرة على تلك الجهات، إذ يتعين تخصيص مليارات الدولارات لشراء وصيانة أنظمة وتطبيقات الحماية ضد هجمات القرصنة والفيروسات الالكترونية.
يتضح إذن أن العام الجديد يحمل للنوع البشرى نوعين أساسيين من المخاطر الفيروسية، أحدهما يتعلّق بجهازه التنفسّى، والآخر يتعلق بجهازه المعلوماتى والمعرفى. تنشط للتعامل مع تلك المخاطر شركات العقاقير والأمصال واللقاحات والأجهزة الطبية، وشركات تكنولوجيا المعلومات على اختلاف أنواعها، وكلا الفصيلين يتوقّع أن يحقق أرباحا استثنائية خلال العام.
إعادة توزيع الثروة تدريجيا من نشاط إنتاج وتجارة السلاح إلى هذين النشاطين صار مسألة وقت، واتجاه العالم إلى تخزين القيمة فى منتجات الرعاية الصحية والمنتجات التكنولوجية أصبح أكثر كفاءة وأقل خطورة من تراكم ترسانات الأسلحة المدمرة، التى لا يتم إطلاقها إلا بفاتورة دماء كبيرة تحمل الخراب إلى العالم قبل أن تدفع بمعدلات النمو إلى الأمام. لكن الخطر الأخلاقى المصاحب لهذا التحوّل فى الثروات يجعلنا أقرب إلى تقبل جانب من نظرية المؤامرة، تلك التى تتوجس من احتمال خلق وتطور الفيروسات بفعل عمدى، بغرض توفير العلاج وتعدد اللقاحات والجرعات الأساسية والتنشيطية لكل لقاح. وقياسا على ذلك فإن شركات تطوير أنظمة وتطبيقات الحماية ضد الهجمات الالكترونية، تظل هى الأخرى موضع اتهام فى خلق هذا النوع من الهجمات بصورة أو بأخرى.
***
العام الجديد يحمل أيضا فرصا كبيرة للتعافى من الأمراض البيولوجية والاقتصادية والتقنية على السواء. فقد تطورت مناعة الشعوب ضد مختلف الأمراض فى فترة زمنية وجيزة، وأصبح استيعاب الصدمات المتتالية ممكنا بأقل الأضرار. كفاءة تدفّق المعلومات تلعب دورا مهما فى هذا السياق، فالدورات الاقتصادية مثلا صارت أقصر عمرا، والتحوّل من دورة ركود إلى دورة نمو لم يعد يستغرق من الوقت ما كان يستغرقه منذ قرن مضى أو حتى عقدين من الزمن. كذلك دعنا نتخيل أن التعامل مع موجات وباء الكوليرا خلال القرن التاسع عشر قد شهد تنسيقا معلوماتيا عالميا فى مجالات رصد الحالات وأساليب الوقاية وتبادل المعلومات فى طرق وأساليب العلاج، وذلك باستخدام تقنيات العصر الحالى، وأن بدائل العمل والتعليم عن بعد كانت متوفرة لشعوب العالم حينها، فإن الأثر الصحى والاقتصادى والاجتماعى لهذا الوباء لم يكن ليسجل ذات العدد من حالات الإصابة والوفيات بكل تأكيد.
هناك أيضا فرصة اقتصادية كبرى لتخفيف حجم الإنفاق العسكرى وسباق التسلّح بين الدول، وتخصيص جانب أكبر من الموارد للإنفاق على مجالات التنمية البشرية بمقوماتها الأساسية من رعاية صحية وسكن وتعليم وتشغيل. فقد بات واضحا أن المخاطر التى تهدد الوجود البشرى وفى مقدمتها تغيّر المناخ وانتشار الأوبئة بل والإرهاب المسلّح... لا يفلح حسمها باستخدام القوة العسكرية الشاملة. وأن هدفى تخفيض الانبعاثات الضارة ومعدل الزيادة السنوية فى درجة حرارة الكرة الأرضية أصبحا على قائمة أولويات المجتمع الدولى لسنوات وعقود قادمة. صدمة كورونا كانت أحد أسباب التغيّر فى نسق الأولويات على المستوى الشخصى لكثير من الناس. العديد منا أدركوا مثلا أهمية قضاء وقت أكبر مع أسرهم، وكثيرون أيقنوا أن بعض الأعمال يمكن إنجازها عن بعد بذات الكفاءة التى كانت تنجز بها بالحضور المادى للموظف... على المستوى الدولى أيضا يجب أن يتغير نسق الأولويات الوطنية، بحيث يتضمن درجة أكبر من الوعى بمخاطر البيئة والمناخ وندرة المياه الصالحة للشرب والرى، ودرجة أكبر من العناية برفاهية الإنسان وحقه فى الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved