عن الصحافة العربية «السفير» نموذجا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 3 يناير 2017 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

تعيش الصحافة العربية فى مختلف أقطار الوطن العربى محنة قاسية لا تفقدها دورها التنويرى، أخبارا وتحليلا، سياسة وثقافة، اجتماعيات ورياضة، فحسب، بل هى تتهددها فى جودها ذاته.

تختلف الاجتهادات والآراء والتحليلات فى الأسباب التى أوصلت الصحافة إلى هذه النتيجة، التى لا يملك أحد مخرجا لها ومنها.. فالبعض ينسبها إلى تطور علم الاتصالات والأجهزة الجديدة التى استولدها الكمبيوتر وعبقريات المجتهدين فى مجال الابتكار وتعزيز وسائل التواصل الاجتماعى، مما أدى وسيؤدى حتما إلى القضاء على الورق، أى الصحيفة والمجلة وحتى الكتاب كوسائل للحوار والثقافة ونشر الوعى، على اختلاف الاجتهادات.

بعض آخر نسبها إلى ضيق الوقت فى عصر يشكل الوقت الاستثمار الرئيسى فيه.. وبعض ثالث ينسب المسألة إلى انعدام السياسة ومن ثم الصراع السياسى فى الوطن العربى، بمشرقه ومغربه.

أما الكثرة الغالبة من المفكرين وأصحاب الرأى فترى أن السبب الحقيقى لانطفاء الصحافة العربية وتلاشى دورها وانعدام تأثيرها يعود إلى أن الدول العربية بمجموعها تعيش فى قلب الصمت وغياب الحوار وسيطرة السلطة على الهواء والورق وتكميم الأفواه بالقمع أو بالإغراء أو بكليهما وبالتناوب، وبالتالى فقد تمت السيطرة للصوت الواحد الذى يعبر عن موقف السلطة، وتم ــ بالأمرــ تغييب الأفكار والاجتهادات والآراء المختلفة أو المتمايزة أو المتباينة، حتى لو كانت فى جوهرها تتخذ منطقها مصلحة الشعب، ولا تكون بالضرورة معادية « للنظام» وإن كانت غير ملتحقة وغير مأجورة.

الرأى الواحد قاتل، لا سيما إذا كان مفروضا بالأمر..

من البديهى أن يكون فى أى مجتمع آراء مختلفة واجتهادات متعارضة، بل وأن يكون فيه من يؤيد الحكم القائم ومن يعارضه، خصوصا وأن مجتمعاتنا بالكاد قد غادرت عشائريتها وطائفيتها ومنطقياتها والتأثيرات، التى لحقت بها، ثقافيا وسياسيا، خلال مراحل تعليمها..
وهى بمجملها قد أخذت برامجها أو اقتبستها عن المناهج فى الغرب، بريطانيا وفرنسا، بالأساس وقبل أن تطغى «الثقافة» الأمريكية التى كانت فى الوقت ذاته منطلقا جديدا لثقافة وتقاليد وأعراف مختلفة.

***

لنعد إلى جوهر الموضوع، أن الصحافة العربية تحتضر. ونقصد بالصحافة مئات الجرائد وعشرات المجلات السياسية التى كان لها دور خطير فى تكوين الوعى ومن ثم الموقف.

لقد كانت القاهرة، تاريخيا، هى « المركز»، فيها الصحافة العربية الأم، صحفا ومجلات ودور نشر.. ومع أن عددا من مؤسسى أهم الصحف المصرية كانوا من اللبنانيين (والسوريين) أى «الشوام»، كما كانوا يسمونهم فى مصر، إلا أن الجمهور القارئ، الذى منح المطبوعات (صحفا ومجلات وكتبا) هو الجمهور المصرى ــ أساسا.. ومن الإسكندرية، بداية، ثم من القاهرة صدرت أهم الصحف العربية وأخطرها (المقتطف، ثم الأهرام، ودار الهلال) فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.

ولم تحتل الصحافة المصرية الموقع الأول لأنها الأولى فحسب، بل لأنها كانت الرائدة.. بمعنى أنها تقدم قبل الأخبار وبعدها الثقافة والعلوم والمعلومات. ثم جاءت الصورة لتلعب دورها، ومن بعد جاء الكاريكاتور بوصفه مجالا عبقريا للتعبير عن الآراء والأفكار من دون كلمات قد يشطبها الرقيب أو قد يحاسب عليها المسيطر أو المهيمن على الحكم.

ولقد أخذت أجيال من الصحافيين العرب فن الصحافة عن دور الصحف المصرية، « الأهرام» أساسا ودار الهلال، والأخبار، وروزاليوسف.. أخذت فن المقالة والتحليل السياسى والريبورتاج، كما أخذت فن الصورة، قبل أن تأخذ درة الفنون الصحافية: الكاريكاتور.

لن ندخل هنا فى التأريخ للصحافة.. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الصحف اللبنانية كانت فى الأربعينيات والخمسينيات وحتى أوائل الستينيات، معظمها أقرب إلى النشرات والدفاتر الشخصية بدليل أن عددا منها قد تولى إصدارها شعراء وكتاب لا علاقة لهم بالصحافة كمهنة، ولكنهم أصحاب رأى قرروا أن يتحملوا كلفة إصدار صحف للتعبير عن آرائهم..

الصراع السياسى والفكرى، وتوكيد الهوية، ومعها الجدارة، قبل المصلحة وبعدها، هو الذى أعطى زخما إضافيا للصحافة لمصر بمفكريها وكتابها وصحافييها الرواد.. ولا شك أن الراحلين الكبار محمد التابعى ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وفتحى غانم وإحسان عبدالقدوس إضافة إلى مصطفى وعلى أمين قد طوروا الصحافة، وفتحوا أبوابها للأدباء الكبار والشعراء المجلين والمفكرين المستنيرين وأصحاب الرأى عموما، فصارت «الأهرام» و«الأخبار» و«روزاليوسف» ومجلة «المصور» وسائر الكتب والمطبوعات، التى تصدرها هذه الدور أشبه بمنارات فى ظلمة عصر ما بعد الاحتلال والاستعمار وبداية مرحلة التحرر التى قادها الرئيس جمال عبدالناصر.

لقد وفرت شخصية القائد فى عبدالناصر «المركز» و«الإطار الجامع»، كما وفر إيمانه بالعروبة الشرعية لمصر فى قيادة الأمة العربية، وهكذا تصدرت مصر ــ بالتراث النضالى المتراكم منذ انتفاضة عرابى ثم ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول وحزب الوفد، ومواكبة طلائع المفكرين والمثقفين والمجتهدين بآرائهم وأفكارهم التنويرية، المسيرة العربية نحو الغد الأفضل بشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية. (طه حسين، توفيق الحكيم، عباس العقاد، صلاح عبدالصبور، أحمد عبدالمعطى حجازى بعد أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران وجورجى زيدان.. إلخ).

وكان طبيعيا أن تنعكس ثورة مصر بكل مفاهيم التغيير والتقدم نحو الأفضل وإعادة الاعتبار إلى العروبة كهوية جامعة، فى مختلف الدنيا العربية.. فكان قيام دولة الوحدة بين مصر وسوريا والثورات والانتفاضات المتعاقبة فى مختلف الأقطار العربية (العراق، لبنان، ثم الانتصار الباهر لثورة الجزائر وخلع الإمام فى اليمن إلخ).

فى هذا الوقت كانت بيروت تلعب دورا حيويا عظيما، على المستوى السياسى والثقافى والفكرى، خصوصا أنها تلقت الدعوة القومية ومشروع الوحدة عبر صراع فكرى ــ سياسى متميز، أنتج خصوبة وحيوية فى المجالات الفكرية والثقافية والصحافية عموما.. ولقد ساعد الدور القيادى المصرى وانتعاش القوى والطاقات القومية فى صدور العديد من الصحف والمجلات السياسية والثقافية. بل أن بيروت قد تحولت إلى ساحة للصراع بين الأفكار ودعوات التغريب والكيانية (وضمنها الطوائفية). وكان للاتجاهات جميعا صحفها ومجلاتها بالعربية والفرنسية ثم الإنجليزية.

***

على أن ذلك كله كان فى زمن مضى.. فبعد الهزيمة أمام العدو الإسرائيلى، ثم غياب جمال عبدالناصر فى عز الإحتياج إلى الدور المصرى القيادى الرائد، انتعشت الإقليميات والطوائفيات، وتقدمت البداوة إلى الصدارة متخفية خلف النهج المغاير الذى اعتمده أنور السادات متوجها إلى كامب ديفيد ليعقد الصلح مع العدو الإسرائيلى.. فاتحا الباب أمام أهل النفط وحكام الطوائف والمصالح كى يتولوا طى صفحة السعى إلى التحرر الكامل وتوكيد الانتماء العربى بالتوجه نحو مختلف أشكال الترابط والتكامل بين الأقطار العربية المختلفة، الفقيرة منها والغنية.

المهم أننا نعيش فى زمن آخر، مختلف أشد الاختلاف عن الخمسينيات والستينيات، مرحلة النهوض والتوجه نحو التكامل والتوحد. صارت كل دولة مخاصمة للدولة العربية الأخرى، وغرقت بعض الدول العربية فى دماء أبنائها. وانتعشت الطوائف والمذاهب، واكتملت الهزيمة بتعاظم المنظمات المتطرفة ذات الشعار الإسلامى، التى تريد إرجاع التاريخ إلى الوراء قرونا فنادت بالخلافة بل وسمت «خليفة» عبر تنظيم متوحش يقتل بلا رحمة ويجند الأطفال ويسبى النساء ويدمر معالم الحضارة.

طعنت الحركة الفكرية فى وطنيتها، وانفرط عقد المثقفين وتشتتوا، بعضهم اشترتهم السلطة (أو اعتقلتهم) وبعضهم الآخر هاجر إلى أقصى الأرض، وبعض ثالث دفن نفسه فى الصمت.

بديهى والحال هذه، وفى ظل التجزئة وقيام الحدود الحديدية بين العربى والعربى الآخر، وسيادة منطق السلطة واتهام كل معارضا بالكفر وإقامة الحد عليه، وطغيان المال النفطى أن تفقد الصحافة دورها الريادى، وأن يقمعها الخوف وهجرة الناس من الناس لفقدان آمالهم بالتغيير.

لقد عدنا إلى عصر الظلام.. ففرض الرأى الواحد هو تعميم للجهل.. والفوضى المسلحة التى فرضتها التنظيمات ذات الشعار الإسلامى خلقت جوا من الإرهاب كان منطقيا أن يلعب دور الحليف لأنظمة القمع ضد حرية التفكير والعمل والسعى إلى غد أفضل.

وتسألنى، بعد هذا «المختصر المفيد» لماذا أقفلت «السفير» أبوابها فى بيروت، وستلحق بها صحف أخرى لعبت ذات يوم، وعلى امتداد سنوات طويلة، دورا تنويريا مميزا على المستوى الوطنى والقومى!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved