صمت ممتع

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 2 نوفمبر 2016 - 8:15 ص بتوقيت القاهرة

شعرت صديقتنا، هيفاء، بأن الظروف جميعها تهيئ لأمسية مختلفة فراحت تستعد لها. خلعت بذلة النهار المتزمتة وأسدلت محلها ثوبا خفيفا وناعما. أخرجت أكياس البطاطس المقرمشة وبخاصة تلك الأكياس المستوردة أخيرا المحتوية على شرائح كالبطاطس ولكنها ليست بطاطس متنوعة الطعم واللون والرائحة والحجم. أفرغت فى الفرن كمية لا بأس بها من الذرة الجافة فتحولت فى دقائق إلى فشار ينقصه الزبد السائل. وضعت فى الفرن الآخر بعض المعجنات التى اشترتها قبل أيام من الحى السورى فى ضاحية أكتوبر. مدت قبضتها داخل أحد البطرمانات وأخرجتها محشوة بمكسرات مختلطة ومدت شوكة فى بطرمان آخر لتسحب بها أصابع الخيار المخلل. زينت الصحن العريض بأوراق الكابوتشا والخيار الأخضر الطازج والطماطم بلونها الساحر وأعواد الجرجير وعدد من رءوس الفجل ونصف فلفلة خضراء ونصف آخر ولكن لفلفلة صفراء. بهدوئها المعتاد نقلت ما أعدت إلى المائدة التى توسطت دائما الغرفة التى كثيرا ما استضافتها مع زوجها خلال السنوات الأولى لزواجهما يقضيان فيها ساعات المناجاة والعشاء الخفيف والفيلم العربى قبل أن يلبيا دعوة الفراش. ألقت بنفسها على «الكنبة» الشهيرة وحاملة الذكريات العتيقة وراحت تنادى على زوجها وعلى ابنها وابنتها لتطلب من كل منهم إحضار مشروبه الذى يفضله لهذه الأمسية التى استبشرت ست البيت أنها سوف تكون مختلفة عن أمسيات الأمس وأول أمس وأول أول أمس... قالت لنفسها «الليلة سنقص أنا وزوجى على «الشباب» روائع تجاربنا ونستمع إليهما ونتبادل الآراء حول تحديات مشتركة تزمع أن تواجهنا كأسرة. أتطلع لسهرة مجزية فأمزجة الجميع رائقة ولا أحد فينا مشغول بموعد أو التزام، أخيرا حانت الفرصة لنتكلم ونتكلم ونتدبر أمورنا كعائلة».

***
كنت من بادر بالحديث فى جلسة عشاء ساهر ضم عددا محدودا من أشخاص متباينى الاهتمامات والهوايات والهويات. اخترت الصمت موضوعا للحوار. لا أعرف لماذا اخترت الصمت. أتصور أن السبب ربما كان شعورى بالهزيمة الليلة الفائتة فى المواجهة التى دارت بينى ومافيا الموتوسيكلات واستمرت حتى الرابعة صباحا. ربطتنى منذ سنوات بهذه المافيا مشاعر عدوانية أبقاها حية ومشتعلة غياب شرطة النجدة. حاولت أن أتفهم انحياز الشرطة للعدوان المتعمد والمتواصل علينا نحن سكان شارع جامعة الدول العربية من جانب راكبى الموتوسيكلات المزودة بأحدث أساليب التدمير الشامل للسكون، تصورت لفترة أنه ربما ربط بين الجماعتين هدف إخلاء الشارع منا تمهيدا لاحتلاله أو إقامة مستوطنات محل بيوتنا وعلى الجزء الضئيل المتبقى من أرض الجزيرة التى تفصل بين ضفتى الشارع. جارة عزيزة علينا عاشت حياتها القصيرة ورحلت عن عالمنا وهى مقتنعة أنها مرضت بسبب الغارات اليومية التى يشنها «المصريون الأعداء» الذين يحقدون علينا. خافوا أن ننام بينما هم لا ينامون، منهم الساهرون على أمننا كما يزعمون ومنهم الساهرون على سرقة سياراتنا أو فى أحسن النوايا إزعاجنا وتخريب أمزجتنا وإحباط معنوياتنا. سبب آخر ربما كان وراء اختيارى الصمت موضوع نقاش، وهو أننى أجرب هذه الأيام العيش فى سكون. أسعى وراءه. أتلمس مسالكه وأبحث عن محبيه. أقرأ عنه. أكتب فيه. أسمع موسيقاه وأجمع دلالاته وحسناته وأروج له.
***
فكرت إن كان مستحيلا أن نعيش جميعا فى صمت. ما أفعله بنفسى ومعها فى أيام معدودة هو أننى أتوسل بعض السكون لى ولها فى بيئة صاخبة. ثم توسعت فى التجارب ومعى أصدقاء وصديقات. لم أغامر بعيدا. أتيت بفيلم سينمائى يقوم ببطولته الفنان العبقرى شارلى شابلن وجلست أشاهده بعين وعقل مختلفين. تخيلت المدينة التى دارت فيها أحداث الفيلم ساكنة لا يصدر عنها ولا يسمع فيها صوت. تخيلتها بالفعل مدينة ساكنة وسكانها شعب صامت. أقول الحق، مرت لحظات تغمرنى سعادة من يكتشف نوعا مستحبا من العيش فى هدوء، نوع طال انتظاره لمن يسكن المدن الصاخبة وتطارده الضوضاء المزعجة. الفيلم أكد لنا أن الحلم ليس خيالا مطلقا. لقد استطاع شارلى أن يأخذنا معه فى جولة صامتة بمدينة ساكنة، الناس فيها تتحرك وتمارس أعمالها وتأكل وتشرب، والأهم، رأينا فتاة تقع بصمت فى حب رجل، ورجل يرقص فرحا، وبدون صوت، بحبها وهيامها. يعنى ممكن.
***
بلغنى أثناء الحوار على مائدة العشاء أن متخصصين يقومون الآن بتدريس فنون الصمت وآدابه. ذكر لى خبير أن التدريب على الصمت فضلا عن أنه يعزز الإرادة فإنه يفيد فى تطهير الأذن وحاسة السمع عامة من تراكمات اللغة المتدنية والمفردات القذرة. بلغنى أيضا أنه صار للصمت مقامه فى العديد من المدن الكبرى مثل برلين ولندن وسياتل. سمعت أن صاحب مقهى برلين أطلق على ممارسة الصمت تعبير فن النحت الاجتماعى. أراد أن يقول، حسب ظنى، إن التخلى عن الكلمات للتعبير عن فكرة بعينها هو كمن يحاول التخلص من سلوكيات اجتماعية مقيدة ومتزمتة. سمعت أيضا أن جمعيات تتشكل الآن بغرض الاستمتاع بالسكون فى أماكن بعينها، بل أن منتجعات صمت بدأت تظهر بالقرب من المعابد البوذية ودور العبادة الكاثوليكية والأرثوذكسية لتستقبل محبى السكون والراغبين فى تبادل العلاقات الصامتة، هكذا يمكن أن نتوقع نوعا جديدا من السياحة تحت مسمى سياحة الصمت.
***
استأنفت صديقتنا هيفاء ما بدأت تحكيه فى بداية سهرتنا. قالت إن الأمسية التى استعدت لها لتكون أمسية كلام يتبادله الأهل والشباب بدأت وانتهت أمسية صمت. عادت صديقتنا من المطبخ تحمل آخر الصحون التى أعدتها فوجدت الغرفة ساكنة والثلاثة ممسكين بهواتفهم الذكية مركزين أنظارهم على شاشاتها. سألت لم يجبها أحد. عرضت فشارا ورقائق البطاطة ومكسرات لم ينتبه أحد. علقت على حادث استجد فى الصباح لم يتخل واحد منهم عن هاتفه ليعقب على التعليق. صمت غير ممتع وسكون غير مستحب.
ليس كل الصمت واحدا. لن يتساوى صمت لحظة تتبادل فيها العيون رسائل حب مع صمت أمسية كاملة يقضيها أفراد عائلة وعيونهم معلقة على هواتفهم الذكية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved