نظرية إسقاط الدولة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الجمعة 2 سبتمبر 2016 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

لا يعقل عند كل أزمة أو أمام أى إخفاق الاستغراق فى «أحاديث المؤامرات»، التى تستهدف إسقاط الدولة دون استعداد جدى للاعتراف بالأسباب الحقيقية والعمل على تداركها.

الاعتراف بطبيعة الأزمات من متطلبات القدرة على المواجهة والإنكار يفضى إلى تراكمها وانفجارها على نحو لا يمكن توقع مداه ولا ما بعده.

فى إعفاء السياسات من أية مسئولية إنكار للأزمة.

وفى نظرية إسقاط الدولة إنكار آخر.

هناك منزلقان على طرفى نقيض فى النظر إلى الدولة وتحدياتها ومستقبلها.

الأول، نفى أى خطر يتهددها فى تماسكها، وهذا غير صحيح بأية قراءة لخطورة التحديات التى تعترضها كالإرهاب المتمركز وأزمتى المياه والغذاء.

كل تحد أقرب إلى حقل ألغام مرشح للانفجار بأية لحظة، وكل أزمة تفضى إلى الأخرى وتعمق مستويات خطورتها.

فالإرهاب قد تتمدد تنظيماته فى بيئة السخط الاجتماعى، وإنهاك مؤسسات القوة فى مواجهة التذمر المتوقع ينال من أى انجاز تحقق فى السيطرة على المنافذ الحدودية حيث جرت من قبل أوسع عملية تهريب للسلاح والمقاتلين إلى سيناء والداخل المصرى.

‫إذا ما جر‬ى خفض حصة مصر التاريخية من مياه النيل، وهذا احتمال لا يمكن التقليل من خطورته، فإنها قد تتعرض لمجاعة غذائية تفاقم على نحو خطير من أزمتها الاجتماعية وتدفع كل التفاعلات إلى سيناريوهات فوضى تقارب «الشدة المستنصرية».

مثل هذه الأزمات تحديات وجودية واحتمالات النيل من تماسك الدولة لا يمكن استبعادها.

أى نفى فهو استهتار بالخطر حيث يمثل وبالمستقبل حين يطل.

الكراهيات تفسر التغول فى النفى بغير تبصر، رغم أن النتائج سوف تكون كارثية على المجتمع كله.

إذا كان هناك من يقول إن مصر تحت الخطر المحدق، فهو على حق، غير أنه لا يكفى للمواجهة ولا يبرر أى إخفاق.

وإذا كان هناك من يقول إن مصر ليست محصنة من أن ينالها ما جرى لدول عربية أخرى من حرائق دمرت بنيانها وشردت شعبها، فهذا ممكن رغم صعوبته البالغة.

كل شىء محتمل إذا ما توافرت أسبابه، غير أن المبالغة المفرطة تجهيل عمدى بحقائق الأزمات وأسبابها، كأن سلامة الدول تقتضى العصف بأية حقوق اجتماعية وسياسية لمواطنيها.

أرجو أن نلتفت إلى أن جميع الدول التى سقطت فى دوامات النار بالغت فى العصف باسم الاستقرار والأمن والحفاظ على الدولة.

عندما ضاقت الدول عن استيعاب التنوع الطبيعى فى مجتمعها تسربت عوامل التفكيك والاختراق حتى استحالت مدن وشوارعها وأريافها إلى ميادين مفتوحة لجماعات متطرفة وحروب أهلية مستعرة وحروب إقليمية بالوكالة وحروب دولية تتقاسم أطرافها حسابات النفوذ بالسلاح والسياسة.

أما المنزلق الثانى، فهو المبالغة فى الخطر كحجة وحيدة لتبرير الانتهاكات فى ملفى الحريات العامة وحقوق الإنسان ومصادرة التنوع الطبيعى فى الأفكار والتصورات، فكل نقد مؤامرة، وكل اجتهاد طابور خامس، وكل اختلاف جيل رابع من الحروب.

فى نضوب الأفكار إفقار للدولة من أية حيوية تصحح وتصوب وتصنع التوافقات العامة التى تسمح بالتماسك فى الأوقات الخطرة.

إغواء نظرية إسقاط الدولة يفضى إلى عكس ما يطلب منها تماما.

باسم الحفاظ على الدولة تضرب فى صميم الثقة العامة فيها دون أدنى مراجعة أو حساب.

عندما ترتفع بعض الأصوات على شاشات الفضائيات تتحدث باسم أجهزة الدولة، تبرر بغير منطق وتتفلت بغير حد، فماذا يمكن أن تكون النتيجة غير التآكل التدريجى لكل رصيد واتساع فجوات الكراهية لحدود منذرة.

وعندما تعزى التجاوزات الأمنية إلى ضرورات الحفاظ على الدولة فإننا أمام معادلات صفرية، إذا كنت مع الدولة فأنت تقبل بكل تجاوز وانتهاك، وإذا اعترضت فأنت عدوها.

من أخطر العبارات التى ترددت فى أجواء أزمة نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية: «من ليس معنا فهو عدو للدولة»، كأن الدفاع عن حرية الصحافة وكرامة مهنتها عداوة معلنة للدولة.

الكلام بنصه وروحه ينال بقسوة من فرص تجاوز الأزمات المستحكمة التى تستدعى التوافق لا الشقاق، كما ينال من فرص البلد كله فى التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة كما دعت ثورتيه فى «يناير» و«يونيو».

العصبية ذاتها شاعت فى مؤسسات الدولة الأخرى، فالعبارة على كل لسان بمناسبة أو بغير مناسبة، بحق أو بغير حق، كأنها تميمة للإفلات من أية مسئولية.

غياب القواعد الدستورية والقانونية هو الذى يقوض الدول لا المؤامرات المفترضة، والقواعد تفترض مراجعة الأزمات والبحث فى دواعى الإخفاق.

باسم نظرية إسقاط الدولة جرى التشهير بثورة «يناير» بحملات فككت تماما «كتلة ٣٠ يونيو»، وكل ما هو ممكن الآن احترام الدستور المعطل تقريبا حتى لا تتقوض كل شرعية ونعود إلى المربعات القديمة.

احترام المؤسسة النيابية من مدى احترامها للأصول الدستورية ولقواعد العمل البرلمانى التى تتيح للنواب حرية التعبير عن مواقفهم، المعارضون قبل الموالين، لا التهديد بعصبية زائدة من وقت لآخر بإحالتهم إلى لجنة القيم، كأن المعارضة جريمة بذاتها.

رغم التهدئة اللاحقة بين رئيس مجلس النواب الدكتور «على عبدالعال» وكتلة (٢٥ـ٣٠) فإن أزمة أخرى لا لزوم لها تسببت فيها تصريحاته عن صحفيين، لديه أسماؤهم، يعملون على إسقاط مجلس النواب.

الأجدر به أن يبحث فى أسباب تصدع صورة البرلمان لا أن يحيل الأمر إلى مؤامرة لديه أسماء المتورطين فيها.

باستثناء عدد من النواب حاولوا أن يقوموا بواجبهم فإن الحصاد العام لا يليق بأى حساب بأول برلمان ينتخب بعد يونيو ورهانها على بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.

هذا وقت مواجهة الحقائق دون مساحيق تجميل.

لا يوجد أحد الآن مستعد لأى حوار يتجنب الحقيقة أو يصادرها بنظرية إسقاط الدولة.

لا يمكن اقناع جائع بأن يحتمل معاناته من أجل وقوف الدولة على قدميها من جديد، وهو لا يرى أمامه سلطة تتقشف أو أية إجراءات تضمن عدالة توزيع الأعباء على رجال الأعمال قبل الطبقة الوسطى والفئات الفقيرة أو أية مواجهة مع مؤسسة الفساد التى تغولت ونهبت الأموال العامة.

ربط الأحزمة ممكن فى أوقات الأزمات الصعبة، لكن لكل شىء متطلباته، ومن بينها الاعتراف بالأزمة والتصرف بمقتضى أخطارها ومراجعة السياسات والأولويات التى أفضت إليها، والعمل على تصحيح المسارين الاقتصادى والسياسى.

ذلك وحده ما يحفظ الدولة أيا كانت فداحة الأزمات.

كم من الجرائم ترتكب باسم نظرية إسقاط الدولة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved